أنابوليس : لا تنازل ولا تطبيع والثوابت لم تُمسْ

TT

أكثر من أسبوع مرَّ على انعقاد مؤتمر أنابوليس والمفترض أن كل ما قيل فيه وكل ما تردد خلاله من تصريحات وبيانات نقلتها وسائل الإعلام العالمية المتعددة المشارب والمختلفة الاتجاهات، قد قطع الشك باليقين وجاء كردٍّ شافٍ على كل التوجسات والاتهامات التي بدأت منذ البدايات عندما أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش في وقت مبكر جداً أنه سيدعو لعقد مؤتمر دولي «في الخريف المقبل» لإطلاق عملية السلام المتوقفة على المسار الفلسطيني منذ نحو سبعة أعوام والتوصل إلى حل يضمن قيام دولة فلسطينية، إلى جانب الدولة الإسرائيلية تكون قابلة للاستمرار والحياة. لم يستطع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) الذي عقد ثمانية اجتماعات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، كان آخرها عشية ذهاب الوفد المشارك إلى أنابوليس، أن ينتزع كل ما يريده من بين أضراس الإسرائيليين، لكنه لم يستسلم ولم يذهب الى المؤتمر وفقاً للمشيئة الإسرائيلية. منذ البداية كان هناك فهم خاطئ لهذا المؤتمر وأهدافه، وقد بقي الذين يصرون على النظر إلى الحقائق والأمور بعيون حولٍ لا ترى إلا ما يستجيب لتوجهاتهم ووجهات نظرهم، يرددون ما كانوا قالوه قبل انعقاد المؤتمر وهو أن الفلسطينيين ذاهبون إلى أنابوليس لبيع قضيتهم وأن العرب من خلال حضورهم سيقدمون للإسرائيليين «التطبيع» المسبق المجاني الذي يريدونه وأن الهدف الأول لهذا الاحتفال «الكرنفالي» هو وداع الرئيس بوش الوداع الذي يستحقه قبل أن يلملم «حاجياته» ويغادر البيت الأبيض بينما الهدف الثاني ـ حسب هؤلاء ـ هو توفير «التغطية» المسبقة على الحرب المتوقعة التي ستشنها واشنطن على طهران والتي قال هؤلاء وهم ما زالوا يقولون إنها دخلت مرحلة العد العكسي والترتيبات النهائية.

وبالطبع فإن هؤلاء قالوا وهم لم يتوقفوا عن القول، حتى بعد أن ذاب الثلج واتضح ما تحته، وحتى بعد أن انعقد هذا المؤتمر تحت مراقبة ألوف عدسات الكاميرات وانتهى، وعرف كل أهل الارض بما دار فيه وما هي النتائج التي أسفر عنها، أن احد أهداف أنابوليس هو شطب القضية الفلسطينية وهو التخلي عن كل ثوابت الفلسطينيين: «القدس واللاجئون والحدود والمياه والمستوطنات» وهو التسليم للإسرائيليين بكل ما يريدونه ويصرون عليه!!.

وكما هو معروف فإن هؤلاء فعلوا ما فعله السيد علي خامنئي، والرئيس محمود أحمدي نجاد، وحكموا على هذا المؤتمر بأنه «فاشل» حتى قبل انعقاده وحتى عندما كان لا يزال فكرة لم تتبلور بعد وهم انطلقوا من منطلق أنه مؤتمر حلٍّ وليس مجرد تحريك وإطلاق لعملية السلام المتوقفة، وهم اتهموا الفلسطينيين الذين ذهبوا إلى أنابوليس حتى قبل أن يذهبوا بأنهم ذاهبون لبيع «القضية» وأنهم ذاهبون لتقديم «التطبيع» مع العدو الصهيوني كهدية مجانية. وحقيقة أن هؤلاء الذين يتعاملون مع الحقائق التي يرفضون الاعتراف بها قد قيل لهم ألف مرة إن هذا المؤتمر هو بداية وليس نهاية، وأنه لن يكون مؤتمر صفقة سيتم إبرامها في ليلة ظلماء واحدة بل خطوة على طريق مفاوضات شاقة، لكنهم بقوا يصرون على وجهة نظرهم هذه حتى بعد أن انتهى أنابوليس إلى ما انتهى إليه، وحتى بعد أن شهدت واشنطن أول جولة مفاوضات فلسطينية ـ إسرائيلية كانت شاقة وكانت صعبة وقاسية في الحقيقة. لم يُسلِّم (أبو مازن) لا قبل أنابوليس ولا خلاله ولا بعده بأي من الثوابت الفلسطينية ولم يذهب العرب إلى هذا المؤتمر رافعين أيديهم بلا أي شروط، والمؤكد أنه حتى الذين بقوا يضعون أيديهم فوق عيونهم يعرفون أن الدعوة قد تمت بالأساس وفقاً للقرارات الدولية المتعلقة بقضية الشرق الأوسط والصراع العربي ـ الإسرائيلي ووفقاً لمبادرة السلام العربية ووفقاً لخارطة الطريق، وهذا من حيث المبدأ يشكل المرجعية التي أرادها الفلسطينيون والتي على أساسها ستجري المفاوضات التي بدأت على الفور والتي شملت قضايا «الحل النهائي» كلها: القدس واللاجئون والحدود والمياه والمستوطنات والجدار العازل.. وكل شيء. إن هذا المؤتمر لم يستجب في الحقيقة لكل ما أراده الفلسطينيون والعرب لكنه وفي كل الأحوال أحرز ثلاثة إنجازات لا يرفض رؤيتها إلا أصحاب نظرية: «عنزة ولو طارت»، وهذه الإنجازات هي:

أولاً، إن أنابوليس أعاد القضية الفلسطينية مجدداً وبعد غياب نحو سبعة أعوام إلى مركز الاهتمام العالمي وذلك بعد أن اختطفت الأضواء عنها ومنها تطورات ما بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر.. من الحرب على الإرهاب، إلى احتلال أفغانستان والعراق، إلى الأزمة اللبنانية المتفجرة، إلى مشكلتي الصومال ودارفور، ثم وفوق هذا كله مشكلة جنون البقر ومشكلة إنفلونزا الطيور.

ثانياً، لقد عزز مؤتمر أنابوليس، الذي حضرته وشاركت فيه نحو خمسين دولة وهيئة عالمية، التأكيد على فكرة أن الدولة الفلسطينية غدت حقيقة راسخة في الوجدان العالمي، وهذه مسألة في غاية الأهمية، حيث أن أهم إنجاز قامت به الحركة الصهيونية قبل إقامة الدولة الإسرائيلية هو أنها استخدمت «الهولوكست» استخداما إعلامياً وسياسياً منقطع النظير وهو أنها جعلت مسألة إقامة دولة إسرائيل مطلباً لكل سكان الجزء الغربي من الكرة الأرضية. إن هذين هما الإنجازان الرئيسيان اللذان أسفر عنهما مؤتمر أنابوليس الذي يضربه العدميون والسلبيون بألسنتهم ضرب غرائب الإبل، أما الإنجاز الثالث فهو أن المفاوضات حول قضايا الحل النهائي بدأت على الفور وبسقف زمني أقصاه نهاية السنة المقبلة وبمتابعة أميركية فاعلة، ثم وهناك إخراج مسار الجولان من جمود استمر لعدة أعوام، وهذا تطور إذا سارت الأمور بالطريقة التي من المفترض أن تسير فيها فلا يمكن الانتقاص منه أو التقليل من شأنه.

لم تستجب النتائج لكل الرغبات الفلسطينية والعربية التي كلها رغبات موضوعية ومحقة، لكن بعض الشيء هو أفضل من لا شيء، فالجمود السابق الذي لفَّ عملية السلام على المسار الفلسطيني منذ كارثة نيويورك وواشنطن عام 2001 كان قاتلاً بالفعل، وابتعاد الأضواء والاهتمام العالمي عن قضية فلسطين يعتبر استمراره كارثة محققة، والمؤكد هنا أن تطوير هذه الإنجازات التي هي إنجازات متواضعة مقارنة بما هو مطلوب يحتاج إلى جهد فلسطيني وعربي متواصل ودؤوب ويحتاج إلى وضع حدٍّ لهذا الانقسام الفلسطيني المعيب ويحتاج إلى استمرار دعم العرب لأشقائهم الفلسطينيين والاستمرار في اعتبار القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية الأولى.

لا يجوز اتهام الرئيس محمود عباس بالتفريط، ولا يجوز اتهام العرب الذين ذهبوا إلى أنابوليس بتقديم «التطبيع» هدية مجانية للإسرائيليين، فهذا ظلم ما بعده ظلم، وهذا تحريف للحقائق خدمة لـ«أجندات» حزبية وتنظيمية خاصة، فهذا المؤتمر من الناحية العملية لم يفعل أكثر من إنعاش عملية السلام بعد غيبوبة سنوات طويلة والأيام قادمة وسيكتشف، الذين لم يدركوا أن ياسر عرفات لم يكن مفرطاً ولا مستسلماً، ولم يوقفوا اتهاماتهم له إلا بعد وفاته، أن المفاوضين الفلسطينيين أكثر حرصاً على القضية الفلسطينية من بعض الذين يكتفون بمراقبة المشهد عن بعد.