الجزائر وفرنسا: المصالح تطرد أشباح الماضي ولكن...

TT

لا يكاد الحديث عن تكريس العلاقات الفرنسية الجزائرية يبدأ حتى تبدأ معه علامات التوتر وتعود أشباح الماضي المشترك لتحوم على ساحة الأحداث من جديد.... زيارة سركوزي الثانية للجزائر في ظرف 5 أشهر رافقتها ضجة إعلامية كبيرة على خلفية تلميحات وزير المجاهدين الجزائري حول الأصول اليهودية للرئيس الفرنسي. لكن التصريحات الصحافية التي كادت أن تنقلب إلى حادث دبلوماسي مرّت بسلام، والوزير الذي أحرج القيادات العليا للبلاد غُيّب من البروتوكول وسركوزي تمّسك بزيارته ووطئ ارض الجزائر ومعه حشد كبير من رجال الصحافة والأعمال. كل أجواء الزيارة تدّل على أن قيادات البلدين عازمة على عدم تفويت الفرصة هذه المرة، وكأن المرحلة الآن هي لتسريع خطوات الشراكة وترك الحساسيات جانباً، ورغم أن باريس قد تعودت أن تكون الجزائر هي محطتها «النارية» دون منازع إلا أنها ضمنت في هذه الزيارة على الأقل ترحيب الحكومة الجزائرية واستعدادها لإرساء قواعد «شراكة اقتصادية استثنائية» بين البلدين، والدليل نغمة الليّونة التي بدأت تظهر في خطاب القيادات العليا الجزائرية اتجاه فرنسا وعلى رأسهم الرئيس بوتفليقة الذي تخلى في ما يبدو عن مطالب الاعتذار عن جرائم الحرب التي ظلّ متشبثا بها على مدى سنتين، مفضلاً عليها براغماتية المصالح الاقتصادية المتبادلة، وهو ما يمكن أن يقرأ أيضا على أنه حصيلة المحادثات الحثيثة التي قادها وزير الخارجية الحالي «مراد مدلسي» مهندس عملية التطبيع مع نظرائه الفرنسيين، وهو الذي يعمل منذ مدة في كواليس السياسة الخارجية من أجل تقريب أوجه النظر الثنائية.

ليونة المواقف الرسمية جاءت من الطرفين، ففرنسا أقدمت هي الأخرى على خطوة مهمة في سبيل تعزيز العلاقات، حيث أمسك سركوزي العصا من النصف وحاول إرضاء الجزائريين بدون التخّلي عن مبادئه حين ندّد في خطابه «بالنظام الاستعماري وظلمه» وسط تصفيق النواب وأعضاء الحكومة وهو ما يمكن اعتباره تطورا في الخطاب الرسمي الفرنسي. بالنسبة لفرنسا كل شيء يهون أمام وعود السوق الجزائرية التي تزخر بمعدلات نمو لا تحلم بها، هي وقد باتت تشكو من ركود نموها الذي لا يتعدى نسبة 2 مقابل 6 في الجزائر، ويبدو أيضا أن منافسة الصين والولايات المتحدة الأمريكية لها في منطقة المغرب العربي جعلت الأصوات التي تنادي بضرورة العودة «لمناطق النفوذ التقليدية»" هي الأعلى. لن نبالغ إذا قلنا ان نجاح الزيارة اقتصادياً هو على الأرجح أكثر ما يهم سركوزي وهو الذي قدم إلى الجزائر وكله أمل في الظفر بخمسة مليارات يورو من العقود الاستثمارية وتأمين حاجة بلاده من الغاز والنفط المتزايدة باستمرار، فالجزائر رغم احتياطاتها النقدية الضخمة (80 مليار دولار)، إلا أنها بلد يحتاج إلى عصرنة وتحديث كل بنيته التحتية وهي سوق استهلاكية ضخمة، لا ينقصها سوى دخول الاستثمار الأجنبي لضخ الحّيوية في نشاطها الاقتصادي وامتصاص مشكلة البطالة والتضخم التي يعاني منها البلد. فرنسا تلّوح للجزائر بجزرة التعاون النووي وقد أضحى سركوزي أشطر مندوب تجاري يبيع التكنولوجيا النووية الفرنسية في العالم العربي، وإن كان فحوى العقد الذي أمضي لا يزال غامضاً، ولم يتبين إذا كان يهدف إلى مساعدتها على إنشاء مفاعل نووي، أو تطوير طاقة نووية أو ماذا..؟ كما حمل سركوزي في جعبته وعودا صريحة بمساندة ملف الجزائر التي تطمع في شراكة اقتصادية «ممّيزة» مع المجموعة الأوروبية ومنظمة التجارة العالمية. يبقى أن نقول إن استفادة فرنسا من مثل هذه الشراكة أهم، فهي تجد في الجزائر ممولاً للطاقة وسوقا استهلاكية لمنتجاتها واستثمارا لشركاتها وشرطيا أيضا لحدودها وهي علاقة تكاد تكون منفعية من جانب واحد.

المشكلة أيضا هي أن الوافد الفرنسي لا يحظى بشعبية كبيرة في الشارع الجزائري، والنجاح الجماهيري كالذي عرفته زيارة شيراك للجزائر سنة 2000 ليس واردا مع سركوزي، فالجزائريون الذين يتابعون برامج القنوات الفرنسية بانتظام هم أصحاب اكبر وأقدم جالية عربية في فرنسا (5 ملايين شخص) وقد استاءوا من وصف الرجل الجاليات المهاجرة «بالحثالة»، كما استاءوا عندما أقدم في ظرف 8 أشهر على إعادة ترحيل 350 ألف مهاجر جزائري غير شرعي إلى وطنهم الأصلي وهو رقم قياسي وأكثر من ذلك عندما أقدم على تشديد إجراءات منح تأشيرات السفر رغم أن حركة التنقل بين البلدين كانت دائماً شديدة الكثافة.

لا شك أن الانفراج هو ما أصبح يميز اليوم العلاقات الثنائية بين الجزائر وفرنسا، لكن الكّل يتفق على أن الشراكة المطلوبة لم تصل المستوى المنشود بعد، وأن العلاقات الفرنسية الجزائرية في عهدة سركوزي لن تتعدى مجال التعاون الاقتصادي، ففرنسا لن تتمكن من نسج صداقة جديدة بالقفز على آلام الشعب الجزائري والجزائر لن تطوي الصفحة إن لم تشعر أنها صفّت حسابها مع الاستعمار القديم ومستقبل العلاقات الثنائية لن يكون مشرقاً إلا إذا اختفت أشباح الماضي.

[email protected]