ما قبل قانون الانتخاب

TT

بين الشطارة والتشاطر (على بعضهم البعض في نهاية المطاف) نجح المتعاطون في الشأن السياسي في لبنان في تحقيق إنجازين تاريخيين: تفريغ كيانهم الجغرافي من مؤسسة الدولة... وتفريغ ما تبقى من الدولة من أبنائها.

على هذه الخلفية لم يعد مستغربا أن يتعذر اتفاقهم على مرشح مقبول لرئاسة الجمهورية، ولم تعد مفاجأة أن يكون المرشح الذي يحظى بشبه إجماع على اسمه من خارج الطاقم السياسي برمته.

مجرد إجماع ـ أو شبه إجماع ـ السياسيين اللبنانيين على مرشح من خارج صفوفهم يشكل، بحد ذاته، إدانة «لتشطارهم» وإقرارا بفشلهم في طرح أسمائهم هم كمرشحين مقبولين لقيادة السفينة اللبنانية في وقت تستوجب فيه هذه القيادة الكثير من الحكمة... والقليل من التشاطر.

رغم ذلك، وحتى في شبه إجماعهم على اسم العماد ميشال سليمان، لم يتخلَّ السياسيون اللبنانيون عن لعبة التشاطر على الذات في تعاملهم مع آخر إجراء يتطلبه هذا الإجماع: طريقة تعديل الدستور وسبل الالتفاف عليه للعودة بلبنان الى نقطة الصفر وكأن السياسة في مفهوم العديد منهم هي استغلال ذلك الهامش الفاصل بين الوسيلة والغاية لجني ما يمكن جنيه من مكاسب شخصية.

المهم الآن أن تبقى ثمة جمهورية لبنانية قائمة على هذا الساحل الشرقي من البحر المتوسط لتستحق انتخاب رئيس لها، ففي أعقاب سنة كاملة من شد الحبل وعض الأصابع بين الموالاة والمعارضة بات السؤال الذي يطرح نفسه على خلفية مناورات الاستحقاق الرئاسي: لمصلحة من يعمل السياسيون اللبنانيون؟

إذا كان لمصلحة المواطن فمواكب الهجرة «المزدهرة» خير دليل على أن المواطن المقهور آخر هموم المرحلة.

إذا كان لمصلحة اقتصاد البلد وانتعاشه فأي نظرة على حالة الركود وأي قراءة لمعدلات البطالة كافيتان لإثبات أن العكس أصح.

أما إذا كان لعزة لبنان ومجده فان التزام العديد من الأحزاب «اللبنانية» بتقديم مصالح الجهات الخارجية ـ الإقليمية والدولية ـ على المصلحة اللبنانية لم يعد يشكل ممارسة سياسية خجولة بل «رؤية عقائدية» راسخة يجري تسويقها جهارا ونهارا.

ولأن هذه الرؤية ارتقت بالعمالة، في الآونة الأخيرة، الى مصاف الافتخار بمدى الالتزام بنهج الجهات الخارجية المعطاءة، ولأن لبنان البلد الوحيد في العالم الذي تخرج فيه مظاهرات حزبية منظمة ترفض الاستقلال وتطالب بإدامة نظام الوصاية الخارجية... قد يكون المطلوب من العهد الجديد في قصر بعبدا أن يبدأ ترتيب البيت الداخلي ليس من قانون انتخاب أفضل تمثيلا للبنانيين بل من قانون جديد للأحزاب يشكل القاعدة السياسية «الوطنية» للتمثيل الشعبي في البرلمان.

لذلك، وانطلاقا من مسلمة «نهائية» الوطن اللبناني التي أقرها اتفاق الطائف، بات المطلوب اليوم وضع قانون عصري للأحزاب العاملة في لبنان يصنفها إما كتنظيم سياسي لبناني أو «كعميل أجنبي» (Foreign Agent ) ـ على غرار ما هو معمول به في الولايات المتحدة.

حان الوقت لأن يسمي المشرع اللبناني الأمور بأسمائها الواقعية... فإذا كان بعض «العقائديين» يفتخرون بارتباط تنظيماتهم الحزبية بالخارج فأضعف الإيمان تشريع هذه التنظيمات وفق واقعها السياسي، والترخيص لها بفتح مكاتب تمارس من خلالها نشاطات «اللوبي» المعهودة في النظام الديمقراطي الأميركي، على أن يحذر عليها خوض الانتخابات النيابية كأحزاب «لبنانية» وتحرم بالتالي حق التمثيل «المباشر» في البرلمان.

هذا لا يعني الانتقاص من حق بعض الأحزاب «العقائدية» في الارتباط بجهات خارجية ـ وهي عادة موروثة منذ ما قبل حدود اتفاقية سايكس بيكو ـ ولكن محاولة لتوضيح الفارق السياسي بين أهداف الأحزاب اللبنانية الساعية الى السلطة لتطبيق برامجها و«أجندات» التنظيمات «عبر الحدودية» المتسترة بحرية العمل الحزبي لتمرير مصالح الجهات الخارجية المرتبطة بها، وعلى حساب الوطن معظم الأحيان.

غني عن التذكير بأن نظام «العميل الأجنبي» لا يخلو أيضا من مكاسب للتنظيمات «عبر الحدودية» العاملة في لبنان قد يكون أبرزها تشريع عمليات تمويلها الخارجي وإن اقتضى ذلك إخضاعها لرقابة الدولة المركزية.