هل يصل التباين السوري الإيراني إلى فراق؟

TT

لكي تعرف ما يجري في لبنان، عليك أن تعرف ما يجري في المنطقة. إذا هدأت المنطقة تثاءب ساسة لبنان. إذا اشتدت حدة الاستقطاب أفاق ساسة لبنان على ارتباطاتهم الإقليمية والدولية. تناحروا. اختلفوا. عطلوا الرئاسة والحكومة والبرلمان والاقتصاد. هيجوا المشاعر الطائفية. عرقلوا الوفاق واللعبة الديمقراطية.

ماذا حدث في المنطقة لكي يسود هدوء نسبي وتجاوب وفاقي، واتفاق في لبنان على ترئيس مرشح واحد بلا منافس، وعلى تعديل الدستور من أجله؟! باختصار، حدث تباين سوري إيراني في الموقف من أميركا. قابله تباين سعودي أميركي في الموقف من إيران. السعودية ضد ضرب أميركا لإيران. ترجم هذا التباين في لبنان بإلقاء السعودية ثقلها وراء ترشيح وترئيس قائد الجيش العماد ميشال سليمان. تحدثت في الثلاثاء الماضي عن التباين في الموقفين الأميركي والسعودي. قلت لا حلف بين العرب وأميركا وإسرائيل لضرب إيران، كما أشاع ويشيع الإعلامان الإسرائيلي والأميركي. هذا التباين لا يلغي قلق السعودية والعرب من الهجمة الإيرانية على المنطقة، ومحاولة تركيب أسنان نووية لها.

اليوم أتحدث عن البعد الإقليمي للأزمة اللبنانية من خلال تباين مواقف الدول المعنية. تخلت الأكثرية اللبنانية الحاكمة عن مرشحيها الرئاسيين. قبلت بنصيحة السعودية بالعودة الى ترشيح وترئيس قائد الجيش، فيما أخفقت فرنسا وأميركا في فرض مرشح رئاسي من خلال توريط بطريرك الموارنة بمباركته.

في كل ما كتبته أخيرا عن الأزمة الرئاسية اللبنانية، كنت ألح على تفضيل ترشيح العماد سليمان، لا أعرف الرجل شخصياً، لكن من خلال مواقفه في العامين الأخيرين اللذين مرا على الانسحاب السوري، أرى فيه المرشح الذي يرضي الأكثرية والأغلبية. الثقة اللبنانية بقائد الجيش تعززت بحرصه على حياده بين الساسة المتناحرين، وعدم انحيازه لدولة عربية أو أجنبية في الاستقطاب الحاد في المنطقة، واهتمامه بالمحافظة على الانسجام الطائفي داخل وحدات الجيش. ظل الأمن هاجس العماد سليمان، للمحافظة على الأمن، أقدم الجيش على تصفية «فتح الإسلام» التنظيم السني/ الفلسطيني الإرهابي في مخيم «نهر البارد» لردع سائر التنظيمات السنية المرتبطة بسورية أو بـ«القاعدة»، خصوصا في شمال لبنان. كسب ميشال سليمان شيعة إيران ولبنان بحماية ظهر «حزب الله» في اشتباكه مع إسرائيل. عندما نزل الحزب بخيامه و«أراكيله» لاحتلال قلب بيروت، لم يتعرض له سليمان لعدم وجود قرار سياسي حكومي (أكثري) بمصادرة سلاح الحزب، أو منعه من الاعتصام، لكن سليمان حال دون الصدام في الشارع، ودون اقتحام ميليشيا نصر الله لسراي الحكومة، بل تدخل لدى الحزب لمنع خيامه وأراكيله من عرقلة حركة المرور في المدينة، وإكراه محالها التجارية على الإغلاق والإضراب معه.

في العلاقة الدقيقة مع سورية، حافظ سليمان على «رفاقية السلاح» التي خرّجت دفعات متتالية من ضباط الجيش اللبناني من الكليات والمعاهد العسكرية السورية. نعم، قفز الرئيس لحود بالعماد سليمان فوق مُتَقدِّميه في الجيش ليوليه قيادته بموافقة سورية. لكن سليمان لم يرتكب خطأ لحود بالانحياز إلى سورية وحلفائها في لبنان. في قرارة نفسه وواقعيته هو أكثر حماسة في الرهان على العرب لمصلحة لبنان. من هنا، كان تجاهل فرنسا وأميركا له منذ تورطهما المتدخل في الأزمة الرئاسية.

اكتشف المعلقون والمراقبون العرب «الوفاق» النسبي الإقليمي/الدولي الذي انعكس فورا بوفاق رئاسي في لبنان، لكن لم يكتشفوا، بعد، التباين السوري/الإيراني في المنطقة وفي لبنان: كان قرار سورية حكيما في الذهاب إلى أنابوليس، الأمر الذي استدعى توبيخا من نجاد لبشار. أجلت سورية مؤتمر الرفض الفلسطيني الذي حاولت إيران تنظيمه في دمشق. بل حالت دمشق دون عقده في طهران. سمحت لمشعل حماس بالسفر إلى السعودية. واستقبلت قريع موفد عباس. هل اقترب القمر السوري من كوكب المريخ الأميركي؟ يمكن سؤال الأردن عن هذا الاقتراب الذي أحدث زلزالا في لبنان وهزات مدوية في المنطقة و«تسونامي» في إيران. ربما نقل العاهل الأردني ضمانات أميركية لسورية بالكف عن مضايقتها وفرض العزلة عليها، بل بتحريك ملف المفاوضات معها بخصوص الجولان إذا ذهبت إلى أنابوليس. قريع تحدث في دمشق عن وحدة المسارين التفاوضيين الفلسطيني/ السوري. وزير الدفاع الاسرائيلي باراك الطامع في خلافة أولمرت من أنصار التفاوض مع سورية، لسهولة قضية الجولان وصعوبة قضية الضفة وغزة.

التقارب الأميركي/ السوري تُرجم بتشديد الرقابة السورية على الحدود مع العراق (مخفر عسكري سوري لكل 400 متر من الحدود الشمالية حيث تنشط «القاعدة» الهاربة من بغداد والأنبار). التقارب الأردني/ السوري حدث على حساب التباين السوري/الإيراني، اتفاق جديد على اقتسام مياه «سد الوحدة». زيارة وليد المعلم المقررة لعمّان. لعل القارئ يلاحظ أني أستخدم مفردة «التباين» بدلاً من «الخلاف». ما زالت العلاقة استراتيجية بين سورية وإيران، وتاريخية ثنائية بين السعودية وأميركا. لا يمكن فك العلاقتين بسهولة وفجأة، من خلال تباين ظرفي في الحركة الميدانية. ظروف استثنائية في المنطقة ولبنان استوجبت مخالفة سورية لإيران، ومعارضة السعودية لإهمال إدارة بوش القضية الفلسطينية. سبع سنوات «بركات». يعني «كفى» بلغة أشقائنا الجزائريين.

التباين السوري/ الإيراني في لبنان بدا واضحا في ارتياح سورية لدعم السعودية ترشيح الأكثرية للعماد سليمان رئيسا. ترجم الترحيب السوري بتحرك رئيس البرلمان نبيه بري (المقرب من دمشق) لحل عقدة الترشيح الدستورية. بري فتح أبواب البرلمان لعقد جلسة الانتخاب اليوم (الثلاثاء) أو في أي يوم آخر.

التباين السوري/ الإيراني في لبنان ترجمه تأخر «حزب الله»، المحسوب على إيران، عن سورية في الترحيب بترشيح سليمان، ربما لمجرد ترشيح الأكثرية الحاكمة له، أو لريبة الحزب في وجود «تفاهم» مسبق بين سليمان والأكثرية. أيضاً، باتت إيران محرجة أمام العماد الآخر، العماد عون «المتفاهم» مع حليفه حزب الله. الواقع ان إيران وحزبها اللبناني يفضلان ترئيس العماد سليمان. سليمان أكثر اتزانا ومصداقية من عون العنيد والمتقلب، وغير المضمون في الإبقاء على «تفاهم» مع الحزب، في حالة ترئيسه. في مقابل ليونة بري (السورية) وافتراقه التكتيكي والميداني عن حليفه اللدود (حزب الله)، قدمت الأكثرية الحاكمة تنازلات كبيرة: عادت فرشحت سليمان المقبول لدى حزب الله، متخلية عن مرشحيها (نسيب لحود وبطرس حرب) المعبِّرين الآن عن زعلهما والمهددين بمقاطعة جلسة انتخاب سليمان. رضيت الأكثرية أيضاً بحضور وزراء بري وحزب الله المستقيلين جلسة مجلس الوزراء، وتسجيلهم اعتراضهم على «شرعية» حكومة السنيورة. من أجل تسهيل تعديل الدستور ولتثبيت قانونية انتخاب سليمان.

هذه التنازلات «التشجيعية» للمعارضة ولسورية، يقابلها «حَرَدُ» ميشال عون وإثارته الهواجس المارونية الطائفية، ومحاولته عرقلة ترشيح غريمه ميشال (الآخر) الذي خطف منه شعبيته في الشارع الماروني. ولعل عتب عون على سورية وإيران يذهب إلى حدود مقاطعة كتلته المسيحية الكبيرة لجلسة الانتخاب، بل حتى للتصويت ضد سليمان. لكن قدرة ميشال على «تعطيل» ترئيس ميشال محدودة. أكثرية الثلثين البرلمانية مؤمنة بتصويت حلفاء سورية (نواب بري وحزب الله) لسليمان إلى جانب الأكثرية. التباين لم يتحول إلى اختراق لا في المنطقة ولا في لبنان. التقرير المخابراتي الأميركي أنقذ إيران من مخالب إدارة بوش. تبقى المصالحة الصعبة بين واشنطن وطهران معلّقة على «أدب سلوك» إيران في العراق. الاستقطاب بين العرب وإيران يبقى محتدما، إذا ما ظلت طهران مصرة على مواصلة اختراق العرب وتمزيقهم سياسيا ومذهبيا. لكي تؤكد سورية استعادة دورها كلاعب أساسي في المنطقة، عليها تحييد نفوذ إيران، والاقتراب أكثر من أميركا وفرنسا، لعلهما تنقذانها من محكمة الحريري الدولية.