فرنسا وسورية: العثور على أول الجسر

TT

عملت فرنسا، منذ مجيء شارل ديغول الى الحكم العام 1958، على ثلاثة مسارات: الاول، محاولة الاستقلال عن التمدد الاميركي الذي يسعى لتغطية العالم. الثاني، استبدال صورتها الاستعمارية القديمة بصورة الدولة الكبرى المعاصرة التي تعقد احلافها مع النمو والتطور والاحرار. الثالث، والاكبر اهمية، اقامة عقد سياسي جديد مع دول حوض المتوسط، وخاصة مع الدول العربية وصولاً الى دول الخليج والثروات النفطية الجديدة التي ابقيت هي خارج مدارها الاقتصادي، لأن المستكشفين الاوائل كانوا اما من الاميركيين او من البريطانيين.

وادرك ديغول في نهجه المستقبلي، مجموعة من الحقائق البديهية والشديدة الوضوح، واولها ان فرنسا قوة اقتصادية ضعيفة (آنذاك) وقوة سياسية وسطية تقف، او تحاول الوقوف، بين مارد اميركي مالي وعسكري وسياسي، وبين مارد سوفياتي عسكري وآيديولوجي. لكن وسط القطبين، كانت لفرنسا ميزات اخرى: فهي متحررة من تهمة الهيمنة التي تلازم اميركا، وحرة من تهمة الشيوعية الملازمة للروس. واخذت فرنسا تسعى الى تأكيد تميزها حيث يمكن ذلك: فهي لا وجود لها، او حضور، في اميركا الجنوبية. ولا بقايا لها في آسيا حيث خرجت مهزومة من الهند الصينية، او جنوب غربي آسيا. اذن، هناك، الخريطة التالية: اقليم كيبك في اميركا الشمالية، والمستعمرات السابقة في افريقيا، والشرق الاوسط.

والشرق الاوسط كان «المجال الحيوي» النموذجي. ففيما تتبنى اميركا اسرائيل بصورة مطلقة وكلية، يسعى العرب الى شريك قوي لا يكون في شيوعية السوفيات، ولا في ارتباط بريطانيا والمانيا الاستراتيجي بالخط الاميركي. اذن، فرنسا هي الحل الامثل. لكن دول المواجهة كانت قد ارتبطت ارتباطاً عضوياً بالاتحاد السوفياتي بسبب حاجتها الى السلاح، وخصوصاً مصر وسورية. ووجدت باريس في العراق دولة تطمح الى احتلال الحيز الاكبر والى زعامة ذاتية تتخطى مصر وسورية والى بناء ترسانة مسلحة تخيف الجميع دون استثناء، اصدقاء واعداء. وهكذا اندفعت صوب العراق. ودخلت بسبب الشراكة مع بغداد في خصومة مع اميركا وفي منافسة مع السوفيات. ثم طورت العلاقة مع منظمة التحرير على نحو مغاير لكافة الدول الغربية. وفي غضون ذلك حاولت على الدوام الابقاء على علاقتها الخاصة مع لبنان، سواء كان سيد الاليزيه اشتراكياً او ديغولياً، لأن لبنان يملك، بالنسبة الى باريس ميزة لا يمتلكها سواه. فهو ليس الشريك الاقتصادي الكبير ولا النافذ السياسي، لكنه على حجمه الصغير اكبر وعاء ثقافي للفرنكوفونية في الشرق.

العلاقة الفرنسية- السورية كانت خالية من الدفء وخالية من المصالح. فبعد الاستقلال كان السوريون لا يزالون ينظرون الى فرنسا على انها دولة استعمارية لها ذكريات دامية في ميسلون. وبعد تغير النظام في دمشق دخلت سورية مباشرة في تحالف مع موسكو من ضمن الصراع مع اسرائيل. وبقي هذا الحذر المتبادل قائماً، وخصوصاً مع تطور علاقة الشراكة بين باريس وبغداد. غير ان سقوط الاتحاد السوفياتي ونتائج حرب الخليج ادت الى متغيرات استراتيجية اساسية في دمشق وباريس على السواء. وبدأت سورية تتطلع ضمنياً الى فرنسا كزعيمة اوروبية قادرة على ان تحشد خلفها دول القارة في مواجهة سياسة اميركية واضحة التحيز. وسجل وزير الخارجية السوري فاروق الشرع في تصريح رسمي تقدير سورية للموقف الرسمي الاوروبي الذي رفض التعاطي مع بلاده على كونها موضوعة على اللائحة الاميركية للارهاب. وكانت زيارة الرئيس الراحل حافظ الاسد للعاصمة الفرنسية قبل عامين بداية علاقة خاصة امضت زمناً طويلاً على عتبة التردد. ولم يبحث الرئيس الراحل فقط في موضوع الشرق الاوسط وقضايا الحرب والسلام، بل ابلغ مؤتمراً للصحافيين العرب انه شدد في محادثاته على الاقتصاد وطاقات سورية الزراعية.

تأكدت نوعية العلاقة مرة اخرى عندما فتح قصر الاليزيه ابوابه للدكتور بشار الاسد قبل انتخابه رئيساً للجمهورية. فقد قام في تلك المرحلة بعدد من الزيارات العربية، لكن الزيارة الدولية الوحيدة التي قام بها كانت لباريس. ولا يخفى مغزى هذا الاستثناء، لا في دقة البروتوكول الفرنسي ولا في دقة السياسة السورية. وخطت باريس خطوة استثنائية اخرى عندما اصدرت عشية وصول الدكتور بشار الاسد بياناً رسمياً قالت فيه انه لكي يكون «السلام عادلاً يجب ان يكون شاملاً». ويشكل ذلك تبنياً كاملاً للموقف السوري في التسوية الذي يشدد على «السلام العادل والشامل»، توكيداً على اختلاف سورية عن الدول التي وقعت معاهدات السلام قبل ان يصبح شاملاً، اي قبل ان يؤمن منح الحقوق للفلسطينيين.

لم تترك زيارة الرئيس السوري لباريس اي شك حول نية الدولتين في تطوير العلاقة الى ابعد الحدود الممكنة. وكان الدكتور بشار قد اقترع في انتخابات الرئاسة في القلم الذي اقيم في مدرسة «الليسيه» الفرنسية، واعلن من هناك ان تلك كانت مدرسته الابتدائية. ولا يخفى اي مشاعر يحرك هذا الامر في نفوس الفرنسيين. وكان انسحاب القوات السورية من بيروت قبل ايام من وصوله الى باريس خطوة دبلوماسية اخرى. فقد استبق بذلك المطالبة الفرنسية بتحقيق انفراج سياسي في لبنان. ومع ان العلاقات السورية- اللبنانية ظلت على جدول المحادثات، فأن طابعها قد تغير بالتأكيد.

تشكل زيارة الرئيس السوري لفرنسا بعد عام من تسلمه الحكم، في الشكل على الاقل وربما في النتائج لاحقاً، حدثاً حقيقياً في تاريخ العلاقات العربية ـ الفرنسية. فالحفاوة الرسمية التي احيط بها، عمل دبلوماسي مدروس بكل وضوح. واعلان فرنسا عن استعدادها لمساعدة سورية في تحقيق برنامجها الاصلاحي، خطوة غير مسبوقة. وفي المظهر كما في الخطاب السياسي، اكد الرئيس السوري على طريقته، اتجاه سورية نحو انفتاح تدريجي في الداخل والخارج. فقد دخل الاليزيه ترافقه زوجة شابة، تلقت علومها هي الاخرى في بريطانيا. وحرص في خطابه العام على لهجة ودية ومنفتحة من دون ان يغير شيئاً في موقف سورية حيال الصراع في الشرق الاوسط.