أنابوليس: تكريس لرؤية «يهودية إسرائيل»

TT

رغم تداخل مفهومي اليهودية والصهيونية إلا ان الديانة اليهودية تقدس ثلاثة عهود وردت في التلمود: على الشعب اليهودي عدم التمرد ضد شعوب العالم، وألا ينخرط في أفعال من شأنها التعجيل بحلول نهاية الزمن وعدم العودة بشكل جماعي إلى اسرائيل. اما الصهيونية فهي تتناقض مع هذه التعاليم وتعتبرها محصلة لتاريخية المنفى والشتات اليهودي الطويل ووفق الديانة اليهودية فإن ذلك عقاب على الخطايا والآثام وان المغفرة يمكن الحصول عليها فقط عبر الصلاة والتوبة. اما الصهيونية فترفض الشتات اليهودي بوصفه قضاء وقدرا إلهيا وسعت لوضع حد له بالقوة العسكرية المحضة بإنشاء دولة مجيشّة لتجميع يهود الشتات.

ووفقا للتوراة ينبغى على اليهود عدم نزع أراضي ومساكن العرب من ملاكها. ولكن الصهيونية التي لم تبلغ منذ تمظهرها مائة عام ما انفكت تنتزع اراضي الفلسطينيين بل تفرض على سلطتهم سفك دماء اخوتهم لإبطال بناء المستوطنات وبدون اجل محدد، وتعرضهم للاضطهاد بأكثر مما اضطهد فرعون مصر اوائل بني اسرائيل غير آبهة بمطالبهم العادلة.

ومن جهة اخرى تمنع الديانة اليهودية الحصول على دولة خاصة باليهود طوال فترة انتظار حلول عصر الخلاص المسيحاني. ولكن العلماء المؤيدين للصهيونية الذين اقتبسوا نصوصا إنجيلية للتأكيد على ان يهوه قد أعطى بني إسرائيل الأرض المقدسة، يهملون النصوص الواردة في الإنجيل التى تؤكد انه قام بنزع الأرض المقدسة منهم جزاء لما ارتكبوه من آثام. كما يضربون عرض الحائض بالحقيقة الإنجيلية حول النبوءات التي تصف الشتات اليهودي بأنه مشيئة إلهية وليس اختيارا او تصرفا إنسانيا.

ومن اليهود من يرى ان الدولة الصهيونية ليست دولة يهودية وليس كافة اليهود صهاينة وليس كل الصهاينة يهودا. ولكن بعض غلاة المسيحيين ـ الصهاينة المؤمنين بأهمية الصهيونية رحبوا بها لكونها تصديقا لنبوءة تفضي في منتهاها إلى العودة الثانية للمسيح والهرمجدون. ويرون ان الميثاق هو ميثاق الله الأبدي وغير المشروط مع شعب اسرائيل وان الوعد اليهوي حول الأرض المقطوعة لإبراهيم لا يمكن إبطاله. وان الكنيسة لم تحل محل شعب إسرائيل الذى لم تتعرض امتيازاته للنسخ بالرغم من «لىّ اسرائيل عنقها الصلبة» للعقيدة اليهودية حسب التوراة. كما يرون ان خطط الرب كانت على الدوام لصالح استرداد إسرائيل.

وعندما رفض الإسرائيليون الايمان بالمسيح ولدت الكنيسة كفكرة لاحقة أو اعتراضية وسيتم إلغاؤها لدى العودة الثانية. وان إسرائيل ستصبح مجددا وكيل الرب الرئيسة في العالم، وان العصر الحالي هو عصر الجنتايل ـ غير اليهود ـ الذى سيبلغ خاتمته قريبا.

ويعني ذلك ان هناك ميثاقين رهن النفاذ: الميثاق الاول المقطوع مع النبي موسى والميثاق الآخر مع المسيح وهو الجديد ولا يمكنه بأي حال نسخ الميثاق الاول. وان ما جاء فى سفر التكوين 12:3 يجب ان يؤخذ حرفيا. ـ سأبارك الذين يباركونك والعن الذين يلعنونك.

ولذا يؤمن المسيحيون ـ الصهاينة ان التزاما روحيا يقع على عاتقهم حيال مباركة إسرائيل والصلاة والدعاء من اجل سلام جيروسليم. وان الفشل فى مباركة إسرائيل يعد فشلا فى دعم بقائها السياسي ويتطلب حكما إلهيا بالضرورة. لذلك ليس هناك ما يدل على ان اسرائيل الراهنة ستشهد حراكا فعالا لتعديل الدستور اوإعلان الاستقلال بهدف اعتماد نظام قانوني للمساواة بين مواطنيها من شتى الأعراق بمن فيهم العرب.

ان قيام دولتين سوف لن ينهي النزاع القائم لأن الدولة الفلسطينية المنبثقة من رحم أنابوليس ومتمسكة بقانون العودة لن تحظى بالاعتراف الاسرائيلي الفعلي؛ نسبة للخطر الديمغرافي الناجم من عودة اللاجئين الفلسطينيين من الشتات ومبدأ تقسيم القدس وفق الطرح الذي قدمه إيهود باراك فى كامب ديفيد لم يجد قبولا من يهود اسرائيل.

ورغم ان عرب اسرائيل يتحدثون العبرية وأضحوا أفرادا في المجتمع الاسرائيلي الذي ينتمى معظم أفراده الى الجناح اليميني، وان الفصل الديمغرافى مناف للديمقراطية الحديثة التي تزعم اسرائيل انها الرائدة في تطبيقها في المنطقة؛ إلا ان سياسات حزب كاديما لا تقر بالانفتاح تجاه العرب أو الوجود العربي داخل اسرائيل، وهو بالأساس حزب انفصالي ينادي بالفصل العرقي بين اليهود والعرب وليست العدالة الليبرالية واحدة من اهدافه. ولذلك فإن شعار الدولتين أو بالأحرى الدولة اليهودية الصرفة سيخدم مخططه لأنها ستكون دائرة في فلكها إلى حين العودة الثانية.

إن المجتمع الاسرائيلي منشطر بسبب النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي الذي استمر 120 عاما. ولذلك دأب ساسة إسرائيل على اللعب بورقة الوطنية. فهناك مجتمعان متوازيان مع درجة من الانفصال بينهما، وهناك أمتان منفصلتان داخل المجتمع الاسرائيلي أشبه بحالة سريلانكا.

والمطلوب إحداث الحراك من الآيديولوجية الوطنية إلى الديمقراطية الليبرالية وحرك ليبرالي من نطاق الحقوق الفردية إلى حقوق الجماعات وهو النظام السائد في العالم قاطبة ويرسخه القانون الدولي المعاصر. ولأن المشروع الصهيوني هو مشروع عرقي وطبقي فيجب إحداث الحراك من سيطرة الطبقة اليهودية التي تكرس وطن الأرض الموعودة بالرؤى التوراتية الى منطق الوطنية المزدوجة أو التعددية العرقية الوفاقية أو تطبيق الفدرالية بمنح الكيانات العرقية غير اليهودية، آي العرب، حقوقا سياسية ودستورية تتلاءم مع العصر الراهن.

* دبلوماسي سوداني سابق