العودة إلى الديمقراطية المفقودة.. خير انتقام من شارون

TT

ليس هناك من شك بأن هدف آرييل شارون الاول هو سحق كل امل للفلسطينيين في «الدولة» وجعل اقصى ما قد يستطيعون تحقيقه على المدى البعيد هو ادارة ذاتية لمناطق جغرافية معزولة ومتفرقة يسهل السيطرة عليها في أي وقت يشاء. وقد وضع شارون شروطه الواضحة أمام السلطة الفلسطينية وأمام المجتمع الدولي، بمباركة الولايات المتحدة من دون اي شروط مقابلة من القيادة الفلسطينية الحالية.

فلا وقف او تجميد للاستيطان ولا لمنع قيام دولة فلسطينية ولا للعودة لحدود 1967 لا شيء يذكر اضافة الى أمر اساسي هو ان شارون بحاجة الى فترة هدوء كاملة لبناء الثقة، سيعود بعدها الى المفاوضات ومن الاكيد انه سيماطل بكل ذرائع الارض إلا اذا كان هناك ضغط دولي او عربي لمفاوضات قد تثمر شيئا يتناسب مع التضحيات الفلسطينية.

شروط شارون من شقين: الأول: الشق الاقتصادي ابتداء من اغلاق ميناء غزة، ووقف تشغيل الفلسطينيين، ومنع تفريغ وتخليص اي بضائع للسلطة، ومنع تسليم اموال الضرائب المستحقة. أي بالمختصر المفيد تجويع الشعب الفلسطيني اكثر للحرية وللقمة العيش.

والثاني: الشق السياسي.. ويشمل اغلاق عشرة مكاتب لمنظمة التحرير، واعتقال كل النشطاء السياسيين «المحرضين» على العنف، وفرض وقف لاطلاق النار الصادر من التنظيمات او الجهات الفلسطينية المعارضة، مما قد يحدث انقساما فعليا بين السلطة والفصائل الفلسطينية الاخرى، وبعد ذلك اخراج الفلسطينيين من المعابر الحدودية الدولية ونقل المعابر الى الادارة الاسرائيلية، وفصل الضفة الى شطرين، اي افراغ «الدولة» من الترابط الجغرافي الذي هو اساس السيادة في مفهوم الدولة، وبالتالي فرض السيطرة الإسرائيلية الكاملة على كل مداخل العبور. فضلا عن هذا هناك اهداف اسرائيلية شارونية غير معلنة تتلخص في ما يلي:

ـ وضع رقبة الرئيس ياسر عرفات تحت المقصلة والتخلص منه بدون تصفيته جسديا. أو طرده وترك هذه المهمة للآخرين.

ـ تركيع الشعب الفلسطيني وتجويعه.. وتركه تحت رحمة المنة الاسرائيلية.

ـ انهيار القيادات الفلسطينية نتيجة الضربات الاسرائيلية المتكررة، وبالتالي هروب من ينجو منها الى الخارج سواء لاستمرار العمل السياسي او للتخلي كليا عن القضية.

ـ تفجير حرب اهلية بين الفصائل الفلسطينية المختلفة والقيادة الحالية ومن ثم اجبار العرب بعد اعترافهم بفقدان الخيار العسكري والتأكيد على ان السلام هو الخيار الاستراتيجي والوحيد أمام التفوق العسكري الاسرائيلي، على التخلي عن القضية الفلسطينية من خلال امر واقع جغرافي عمل عليه بالبناء المستمر للمستوطنات، والبرهنة على ان الفلسطينيين ليسوا اهلا للدولة (اذا هم بالفعل جنحوا الى حرب اهلية).

شارون من جهة ثانية، نجح حتى الآن في تحجيم القيادات العربية ووضعها أمام المرآة.. فإما مصالحها وعلاقاتها مع الولايات المتحدة وإما خوض حرب خاسرة مع الدولة العبرية ستعيد المنطقة عشرات السنين الى الخلف وستكون نتائجها اكثر سلبية واسوأ من أي حروب سابقة. واؤكد ان اسرائيل اذا نجحت في جر المنطقة الى حرب لن تعمل فقط على الاستيلاء على اراض جديدة، لكنها ستعمل ايضا على هدم البنية التحتية واعادة الدول المحيطة بها الى العصور الغابرة.

في خضم هذا السيناريو القاتم.. هل بقي أي امل للفلسطينيين بالحرية.. وللمنطقة العربية بالسلام الذي لن أسميه «سلام الشجعان»؟

لنقارن بين مطلبين مختلفين.. مطلب السلطة الوطنية الذي تقلص الى حد ازالة الحصار وتحرير اموال الضرائب المستحقة والمحتجزة، ووضع حد لانفلات المستوطنين.

ومطلب الانسان الفلسطيني الذي هو التحرر من الاحتلال مهما كان الثمن. فالمواطن لم تعد تهمه لقمة العيش التي يقتاتها من فتات الاسرائيلي.. لم يعد يهمه انهيار الاقتصاد ولا البنية التحتية.. لم يعد يهمه حصار الجوع ولا طلقات الموت التي تأتيه من المستوطنين.. فكل ما يطالب به هو الحرية.. والدعم العربي، وواضح ان التفاوت بين المطلبين كبير جدا.

كلنا يعلم السبب الأول لـ«الانتفاضة» وهو وصول مفاوضات السلطة الوطنية الى طريق مسدود، ولكن السبب الآخر المهم هو الذي احدثته السلطة الوطنية بتفرقتها ما بين فلسطينيي الداخل والخارج من المبعدين القادمين.. وكل منهم يحلم بنتيجة كفاحه. وهذا ما شجع بذور الفساد لأن تنمو وتكبر اكثر من السابق وتخلق حاجزا نفسيا هائلا ما بين الاخوة الفلسطينيين.. ومن هنا بدأ مسلسل الفساد والاجحاف وانعدام الديمقراطية.

لقد ظل فلسطينيو «الانتفاضة» الاولى ينتظرون السلام وثمار السلام.. الا ان الوضع الداخلي وبرغم كل صور السلام التي نجحت القيادة في اظهارها دوليا لم تنجح في تغيير الحقيقة المؤلمة على الارض.. وهي وجود الاحتلال بكل اشكاله، الى جانب الانتهاكات المستمرة لحقوقهم من كلا الطرفين، اضافة الى التقلص في مساحة الارض وتوالد المستوطنات.

ومن هنا بدأت اعادة النظر في كل الظروف وما وصل اليه فلسطينيو الداخل، وظهور قوة جديدة جبارة من قياديي وحركة «الانتفاضة» الاولى لتعيد تقييم كل شيء من اجل مصلحة جميع اطراف النزاع، ولكن برؤية اوضح من رؤية القيادة الحالية وبهدف محدد واضح ليست فيه مناطق مقسمة الى أ ـ ب ـ ج، على رأس اولوياتها التخلص من الاحتلال وبدون مستوطنات تفاوضت على مساحتها وعددها السلطة الحالية وصار في جوهر تحركها على المدى الابعد إما التخلص من قيادة السلطة الحالية وإما اجبارها على الانصياع للمبادئ الاساسية التي قامت عليها العملية السلمية ابتداء من مدريد وليس من اوسلو، خاصة بعد انكشاف مسلسل التنازلات الذي لم ينقطع، اضافة الى ملفات الفساد.. ومخيمات البؤس التي زادت بؤسا، وانعدام الديمقراطية وسيادة القانون.

ان الدولة العبرية ما زالت تجد من مصلحتها الترويج بأن القيادة الحالية هي التي تقود «الانتفاضة» وانها قادرة على تحجيمها ـ لأنها تعلم انها الوحيدة المستعدة لتقديم اقصى التنازلات بعد انهاكها داخليا وعربيا ودوليا ـ فهي تعلم ايضا أن القيادة عاجزة عن وقف «الانتفاضة».. ولكنها قادرة على السير في خطوات تؤدي الى القضاء البطيء عليها.

«الانتفاضة» ارجعت ملف الشرق الاوسط الى قلب الاحداث الدولية.. ونجحت في خلق حالة من الارباك في التغطية الاعلامية، التي انتقلت فجأة وبدون مقدمات أمام العالم الخارجي من الترويج لحالة السلام وانهاء الصراع العربي ـ الاسرائيلي الى حالة حرب دامية.. يعيشها الطرفان مع اختلاف المعادلة.. وهو ليس بأي حال من مصلحة الدولة العبرية.

ان الخسائر الناتجة من «الانتفاضة» من النواحي الاقتصادية تكاد تكون متعادلة بين الطرفين وان كانت لم تمس بعد لقمة عيش الاسرائيلي بنفس درجة تجويع الفلسطيني ولئن كانت خسائر الارواح الفلسطينية وهدم البنية التحية وصعوبة الحياة اعلى بكثير مما هو حاصل عبر السياج الا انها نجحت في خلق حالة من الرعب في الشارع الاسرائيلي ستفضي حتما الى التساؤل عن حقيقة اسبابها.. والوصول الحتمي الى السبب الاول والرئيسي وهو انعدام العدالة في العملية السلمية، واستمرار وجود الاحتلال ـ حتى وان كان بطريقة غير معلنة ـ في المناطق المسماة بـ«المحررة».

وهنا نصل الى ان النتيجة الحتمية والاساسية هي انه ليس من مصلحة القضية الفلسطينية التعارض في قراراتها السياسية الآن. فمصلحة الانسان الفلسطيني تحتم الالتزام بالقرار الواحد حتى وان كان مصدره القيادة الحالية، ودفع القيادة الحالية نحو اثارة المطلب الاساسي وهو جدول زمني محدد لانهاء الاحتلال بدون مستوطنات.

يجب ان يبقى المطلب الاساسي للانسان الفلسطيني واتحاد جميع الفصائل الفلسطينية وتعاونها لانتخاب قيادة جديدة، واضحة الاهداف، ترسم حدودها وتحدد منظورها ازاء مستقبل الدولة العبرية، وتحدد سقف مطالبها وبالذات حقوق اللاجئين. وان تبدأ هذه القيادة بالتسويق والاعلان عن منظورها في كل المحافل العربية والدولية من دون اي تغيير في هذه المطالب مهما كان الثمن، ومهما تطلبت من وقت اعتماد الخطوات الضرورية لاكتساب مصداقية عالمية تؤكد حقها ومسؤوليتها في المجتمع الدولي.. ابتداء من بناء مؤسسات شعبية حرة لترسيخ دعائم العدالة وسيادة القانون حتى وان كان على نطاق المناطق الصغيرة والسير قدما نحو محاسبة رؤوس الفساد والوصول الى كل ارقام الحسابات المصرفية واعادتها الى الشعب الفلسطيني لدعم صموده، خاصة في هذه الظروف وقبل فوات الاوان.

* ناشطة في حقوق الانسان