الثقافة الإنسانية والتماثيل

TT

اعتاد المثقفون ان يقرنوا التماثيل بالثقافة الانسانية على اعتبار ان التماثيل جزء من الثقافة، الشيء الذي اكسبها نوعا من التقدير، حتى عند المسلمين وذلك لما للثقافة من مكانة انسانية. وقد انتشرت هذه الفكرة انتشارا حتى اصبحت من المسلمات في فكرنا المعاصر ولم يعد هناك ما يدعو للنظر الى هذه الفكرة لمعرفة ما اذا كانت صحيحة ام خاطئة ولم تعد هناك حاجة لاجهاد الفكر في معرفة صحة الفكرة من خطئها، والمعلوم ان كل شيء اصبح مشهورا تنساق وراءه العقول عملا بالمقولة القائلة. خطأ مشهور خير من صواب مهجور. ولنبين صدق هذا الرأي دعونا نبحث عن العوامل التي تربط الثقافة بالتماثيل. هل هذه العوامل تؤهلها لأن تتبوأ هذه المكانة في مكونات الثقافة؟ ولنبحث اولا عن كلمة الثقافة، معناها اللغوي والاصطلاحي.

ان الثقافة كلمة محدثة، لذلك فإننا لا نجدها بالمعنى الذي تحمله الآن في معاجم لغتنا، فكلمة ثقف التي هي اساس كلمة ثقافة في جميع المعاجم العربية تفيد الحذق والفهم والفطنة او ما يتعلق بها وقد اضافت بعض المعاجم الى ذلك الظفر والفوز بالشيء وقد اوردوا في ذلك شاهدا (اقتلوهم حيث ثقفتموهم). واما في الاصطلاح فقد وردت كثير من التعريفات التي لا يحصى لها عدد، وذلك ان العلماء والمفكرين الذين بحثوا في كلمة الثقافة ربطوها بعلم الاجتماع، أي ان هذا النشاط الفكري من الامور النظرية، ومن افضل التعريفات من وجهة نظري ما ورد في كتاب (نظرات في الثقافة) تأليف ماري سبيرو (أنها السلوك المكتسب، وهي تتضمن كل الاساليب او الطرز المألوفة وكل الافكار والقيم التي يمارسها الناس ويحرصون عليها ويعتزون بها ويؤثرونها على غيرها كأعضاء في مجتمع منظم او موحد او اسرة)1، وهناك تعريف مختصر اورده مجموعة من الباحثين في نظرية الثقافة بقولهم (الثقافة تتكون من القيم والمعتقدات والمعايير والرموز والايديولوجيات وغيرها من المنتجات العقلية)2.

وكل هذه التعريفات ناقصة لأنها لم توضح ماذا تعطي الثقافة للحياة لأن أي شيء في الحياة لا يقدم شيئا للكائن الارقى في الحياة الذي من اجله تقوم الحياة شيء من الفائدة فهو عبث. فكان لزاما ان يضيفوا على تعريفاتهم هذه شيئا يفيد ما تقدمه الثقافة للانسان كأن يضيفوا في آخر التعريفات شيئا يفيد الحياة الانسانية التي تؤدي الى (رقي السلوك الانساني ومعتقداته) هنا تعطى الثقافة معنى مفيدا، كما هو مضمون الثقافة وما هو مأمول منها واما ان تكون الثقافة هي الثقافة او ان الثقافة هي شيء آخر ففي هذه الحالة جردنا الكلمة من المضمون والمأمول، لأن الملتزمين والقائمين (وهم المثقفون) على مضمون الكلمة مأمول منهم الرقي بأصحاب ثقافات مجتمعاتهم فلا يكتفوا بأن يؤمنوا بهذه العناصر التي تتكون منها الثقافة دون ان يجعلوا منها سلما لرقي الانسان.

واما التماثيل، وهي جمع التمثال، فقد شحت معاجمنا في تعريفها ولعل هذا الشح ناتج عن عدم وضع هذا المفهوم في ما مضى، حيث ارتبط التمثال بصورة الصنم ومعلوم ان الثقافة العربية هي ثقافة اسلامية في الاساس فالكتب لم تظهر في ثقافتنا إلا بعد الاسلام رغم ان الكتابة معروفة لدى العرب قبل الاسلام.

وفي جولة في بعض معاجمنا نجد ان المنجد لم يتعرض لمادة تمثال، فقد توقف عند كلمة تمار، ولم ترد في المنجد كلمة صنم.

واما في القاموس المحيط، احد اهم معاجمنا، فقد قال في مادة صنم (واحد الاصنام قيل معرب عن شمن وهو الوثن) اما التمثال فقد ورد في مادة تمثال: صورة والجمع تماثيل.

واما كتاب التعريفات للشريف الجرجاني، فقد عرف مادة التمثيل في كتابه ـ التعريفات ـ التمثيل بما يخالف المعنى اللفظي لكلمة تمثال مما يفيد القياس مادة (التمثيل صفحة 66 ط دار الكتب العلمية) اما مادة صنم فلم يتعرض لها.

واما مختار الصحاح، فقد قال في مادة صنم: واحد الاصنام قيل معرب عن شمن وهو الوثن والتمثال صورة والجمع تماثيل.

واما المصباح المنير فلم يرد التمثال فيه إلا انه عرف الصنم على انه وثن متخذ من الحجارة. واما المعجم الوسيط وهو احد معاجم لغتنا الحديثة فإنه قال عن الصنم: تمثال من حجر او خشب او معدن كانوا يزعمون ان عبادته تقربهم الى الله وجمعه اصنام. وفي التنزيل (فأتوا على قوم يعكفون على اصنام لهم) الآية.

واما الراغب الاصفهاني في مفرداته فلم يتعرض لكلمة التماثيل واورد في مادة صنم: جثة متخذة من فضة او نحاس او خشب يعبدونها متقربين بها الى الله تعالى وجمعها اصنام.

ومن خلال هذه الجولة يتضح لنا ان التمثال او الصنم هو عبارة عن جسم يصنعه الانسان من جمادات لا روح فيها ولا حياة وهي لا تقدم أي شيء للانسان انما هي ملهاة للانسان واداة لتعطيل عقله وحسه تلهيه عن التفكر في ملكوت السماوات والارض لتسمو روحه ويفكر تفكيرا طليقا غير مقيد لتفهم واستنباط ما وراء المحسوس لادراك نظام الكون وان الكون له خالق غير هذا الذي صنعناه وان هناك صانعا اكبر لأن عابد الصنم او الوثن ينزل بعقله الى ادنى من مستواه، لأنه لن يضيف شيئا للمعرفة الانسانية.

يقول البعض ان التماثيل والاصنام من ادوات الجمال وهذا يتطلب منا معرفة الجمال في موازين الفلسفة والادب والفن، لكن لكي لا نطيل على القارئ نكتفي بأن نعرف الجمال تعريفا لغويا بسيطا.

ونقول الجمال هو الحسن ويكون في العقل والخلق وفي كل محسوس ومرئي والتمثال يتكون من ثلاثة عناصر هي الممثل منه او المشبه به او اداة التشبيه والمادة التي صنع منها التمثال والصانع او المثال وفي هذه الحالة ينبغي ان نسأل عن مكمن الجمال الذي يتذوقونه في التماثيل هل هو من التمثال او الصنم او من الممثل منه ـ أي المنحوت على غراره ـ او من المادة التي منها المنحوت، وفي حالة كون الجمال نابعا من المادة المنحوت منها كالحجر او المعدن او الخشب او المادة الاصل وهي غالبا جماد والمشبه بها كالانسان او الكلب او القرد او الصورة التي عبرنا عنها بالمشبه به وهي ايضا تتكون من المثال او الصانع ومن المادة التي منها نحتت.

ورغم هذا التفكيك فإن المرء ليعجز عن ايجاد مكمن الجمال في التمثال فإن قلنا ان اصل الشيء هو اساس الجمال قادنا العقل الى ان في هذه الحالة يجب ان يكون الجمال للانسان او القرد وليس للتمثال. واذا قلنا ان الجمال يكمن في المادة التي نحت منها التمثال اعترض علينا قانون الطبيعة الى ان المادة في حد ذاتها موجودة بكثرة ولم نر عاقلا هام حبا بالمادة التي منها التمثال، مثل الحجارة والاخشاب والمعادن.

وان قلنا ان مكمن الجمال في التمثال نفسه تساءلنا وقلنا اين الجمال وأي نوع من انواع الجمال فإن قيل لنا ان الجمال يكون في التمثال نفسه قلنا وهل جميع التماثيل متساوية في الجمال؟ ام متفاوتة كما هو الحال مثلا في المرأة (أجمل مخلوقات الخالق) وان قيل لنا وهو كذلك قلنا اذن الجمال في هذه يرجع للصانع وليس التمثال فإن اتقن الصنعة كان التمثال جميلا وان لم يتقنه افتقد التمثال ما يدعون له بالجمال. وهنا نتوصل الى ما وصلنا اليه في الربط بين الثقافة الانسانية بالتماثيل وهي ان ربط التماثيل بالثقافة الانسانية كان نتيجة الثقافة المنقولة الينا من الثقافة الغربية التي افتتنا بها والتي بنيت على مبادئ وتوجيهات تختلف عن توجهاتنا وثقافتنا والتي لا ترى في الحياة شيئا محرما كما ان النظر الى التماثيل باعتبارها اداة جمال نوع من هذا الغزو وتقليد كل ما هو غربي.

هوامش:

1 ـ نظرات في الثقافة ترجمة د. مجد العريان دار احياء الكتب العربية ص 15 ـ دار احياء الكتب العربية.

2 ـ عدد 223 نظرية الثقافة ص 10 ـ سلسلة عالم المعرفة.