أكراد العراق بين مطارق قضاة أوروبا.. وسندان الملاذ الآمن!

TT

كنا نسميها اراضي محررة، وندافع عنها بسخونة الدماء، ولكن قذيفة المدفع النمساوي كانت تخترقها طولا وعرضا، فلا نسمع سوى ازيزها وهي تعبر وتعبر، وتسقط حيث يشاء مطلقها! هكذا تعرف اطفالنا على دولة النمسا الديمقراطية، والمهتمة بحقوق الانسان التي صادرت اخيرا مقعد الولايات المتحدة في لجنة حقوق الانسان التابعة للامم المتحدة، بحيث صرح سفيرها لدى واشنطن، ان اختيار بلاده يعود لمكانتها المرموقة كمعقل لحقوق الانسان، لانهم سهلوا نقل نصف مليون يهودي من الاتحاد السوفياتي السابق الى اوروبا الغربية.. ونحن الكرد تعرفنا عليها بمدفعها العملاق! كنا نعرف الروس قبلهم بطائرات الميغ والسيخوي التي كانت تحرث القرى والقصبات الكردية بالقنابل العنقودية والنابالم، حتى كأنها صنعت لتستعمل ضدنا فقط، حتى جاء الرئيس الحالي وغيّر اتجاهها جنوبا وشرقا ايضا، فذاق الآخرون طعم الغارات الجوية مثلما كنا نذوقها نحن! ثم جاءت المقاتلات الفرنسية والسموم الكيماوية الالمانية، حتى ان سويسرا المعروفة بحيادها وبعدها عن تجارة الموت اهدتنا طائرة البيلاتوس الزراعية التي (حسنت!) في الطريق وجعلت عسكرية تصيب صواريخها الهدف بدقة متناهية تعادل دقة اصابة المقاتل الجبلي الكردي للهدف! واحترنا كيف ندافع عن اراضينا (المحررة) هذه بالمناجل وبنادق الكلاشنيكوف! جحافل قوات الحرس الجمهوري الحكومي، وحرس آيات الله، وقوات الناتو التركي حولت جبالنا الى مناطق قتال وعرض العضلات واثبات الامر الواقع، وكأن الزمن قد عاد الى الوراء قروناً حينما استعملت الامبراطورية العثمانية والفارسية الامارة الكردية لحماية تخومها، وعندما قويت شوكة بعض الامراء، قطعت رؤوسهم على ايدي اخوتهم في اغلب الاحوال! بعد عشرات الثورات والانتفاضات والتضحيات الجسام التي قلما ترى عائلة كردية لم تعلق صورة شهيد او اكثر في صدر بيتها، خرج الكرد بنتيجة مُرّة واحدة وهي ان الكبار هم الذين يرسمون خريطة المنطقة، وان ساطور الدكتاتورية سيبقى على رقاب العراقيين جميعا ما دامت هناك كارتلات نفطية وعلاقات تجارية، وحكومات غربية ترى ان معايير حقوق الانسان تنطبق فقط على مواطنيها! في كردستان العراق توجد اربع محافظات وعشرات المدن الصغيرة ومئات القصبات، وفي ما عدا كركوك (التي اخليت من سكانها الكرد) لا يوجد مصنع واحد يمكن ان ينتج كيلوغراما واحدا من الزيت، او بطانية تدفئ المواطن الكردي في ليله الثلجي الطويل! اما في مجال الزراعة فإن اغلب المنتجات من فواكه وحمضيات، التي ينتجها الفلاح الكردي تبقى وتتعفن او تباع بأسعار بخسة لا يمكن ان تغطي حتى اسعار النقل بسبب غلق الاسواق العراقية وكذلك اسواق الدول المجاورة بوجهها. ومما يدعو للاسف ايضا ان اللجان الخاصة بتطبيق اتفاقية النفط مقابل الغذاء لا تعتمد على المحاصيل الزراعية المحلية وتصر على استيرادها من الخارج، بالاضافة الى اننا نسمع في كل مرة عن فقدان بضعة ملايين من الدولارات في الصندوق الخاص بالمنطقة الشمالية وكان آخرها 25 مليونا بالتمام والكمال.

امام هذه المفارقات والخلافات الحزبية الداخلية لم ير عشرات الآلاف من شباب الكرد طريقا سوى البحث عن العمل في اي بقعة من العالم طمعا بحياة افضل لهم ولعوائلهم، وبحثا عن ملاذ آمن حقيقي يقيهم من شر السموم والانفالات.

الحكومات الاوروبية التي لم تستطع الحد من ظاهرة اللجوء الكردية وجهت اللوم للاحزاب الكردية (التي اضطهدت كل هؤلاء البشر) في حين لم تفكر في ان كل هؤلاء الناس وملايين اخرى هم في الحقيقة ضحاياها الذين هربوا من اسلحة الدمار التي باعتها مصانعهم وشركاتهم للنظام العراقي، وجنت من وراءها ارباحا خيالية ولا تزال تقيم علاقات سياسية وتجارية مع النظام بالرغم من انها تشتمه في العلن، وتغازله وتدافع عنه خلف الكواليس!! ثم ان ظاهرة اللجوء لا يمكن حلها بمعزل عن القضية العراقية ككل، فالعراقيون جميعا وبمختلف مشاربهم يهربون بعد ان تفاقمت الاوضاع السياسية والاقتصادية في العراق. فابناء الوسط والجنوب يهربون عن طريق الاردن وايران الى استراليا بحيث ضاقت الاخيرة بهم واصدرت قوانين رادعة بحقهم، لكن دون جدوى، اما ابناء الشمال فإنهم يتجهون صوب اوروبا عن طريق تركيا. لذلك فإن الاحزاب الكردية التي تحولت الى علب السردين لكثرة الضغوط التي تتوالى عليها من جميع الاطراف لا حول لها ولا قوة امام هذه المعضلة ولا يمكنها ابدا منع المواطنين من التنقل عبر الحدود الدولية.

وبالرغم من ذلك فإنها اسست لجانا حزبية وشعبية في هذه الايام لدراسة اسباب الهجرة، خصوصا ان مجموعة من الدول الاوروبية تحاول اعادة الالاف من اللاجئين الى كردستان بحجة انها منطقة آمنة، وان بامكان هؤلاء المواطنين العيش بامان وسلام في مدنهم وقراهم والحقيقة هي غير ذلك بدليل ان القوات العراقية تستطيع ان تتوغل في المناطق الكردية من دون رادع وكان آخرها في (باعدرة) في الشمال و(كفري) في الجنوب.

لذلك فإن هذه اللجان ربما تحلم بالمستحيل اذا فكرت بوضع حد للهجرة، لان الامر اكبر من ان تصدر قرارات حكومية او حزبية حوله. فثمة اسئلة تدور في خلد الحالمين بجنة اوروبا، منها، من يضمن امن وسلامة المنطقة من انفالات اخرى وعدم سيطرة القوات الحكومية على المدن الكبيرة على الاقل، ثم اين يحصل هؤلاء على العمل في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، وماذا يفعل هؤلاء وغيرهم غير الجلوس في المقاهي وانتظار المستحيل الذي لن يأتي.

ان على دول اوروبا ان تحل القضية في الاساس اذا ارادت ان تضع حدا للهجرة الكردية اليها، واولها الضغط على النظام العراقي لايقاف عمليات تعريب المناطق الكردية وعودة المرحلين الى مدنهم ومناطق سكناهم الاصلية، ثم المساهمة في حل جذري للقضية الكردية حتى لا تبقى عائمة هكذا. فالكرد يتوقون الى القليل من الديمقراطية حتى يتخلوا عن السلاح والزي الكاكي ويبدأوا حياة مدنية، يبنوا مدنهم وقراهم، ويتمتعوا بخيرات ارضهم، خصوصا ان الاقليم غني جدا بمصادر المياه والثروات الطبيعية والحيوانية، علاوة على انها من اهم المناطق السياحية في المنطقة. وهم متعلقون بأرضهم اكثر من اي شعب آخر، واذا ما احسوا بالامان والاطمئنان على مستقبل ابنائهم فإنهم لن يهجروا ارضهم ابدا. بل ان الالاف منهم سيعودون من دون ان تتدخل الدول الاوروبية وتبادر الى ترحيلهم، خصوصا اذا بادرت هذه الدول الى المساهمة في بناء البنية التحتية للاقليم وساعدت على اقامة بعض المصانع الخاصة بالمنتجات الزراعية والحيوانية لتشغيل الايدي العاملة ولتحسين الوضع الاقتصادي في المنطقة، وهو قليل جدا مقابل ما فعلتها اسلحتهم وسمومهم بحق هذا الشعب. إن المشاركة العاطفية لا تكفي في وضع حد لمأساة هذا الشعب المستمرة، كما ان طرد آلاف الشباب الذين يعملون في البلدان الاوروبية يساهم في قطع المساعدات عن العوائل التي تتلقى هذه المساعدات المهمة من ابنائها الذين يعملون في مهن شاقة لا يقبل عليها المواطن الاوروبي.

ان لسان حال جميع العراقيين يقول، ساهموا معنا في صنع عراق ديمقراطي، وسترون اننا لن نأتيكم إلا بجيوب منتفخة، وربما طبعا للدراسة او لقضاء عطلة في ربوع بلدانكم!

* كاتب وصحافي كردي