قرار التعيين الرئاسي في باكستان.. للضرورة أحكام

TT

وأخيرا، بعد تمهيد واعداد طالا عشرين شهرا، عين الحاكم العسكري في باكستان الجنرال برويز مشرف نفسه رئيسا للبلاد، مجددا ومؤكدا أمام المحكمة العليا وعود انقلابه العسكري. في اكتوبر (تشرين الاول) 1999 بإنقاذ باكستان من فسادها السياسي وركودها الاقتصادي. واقترن قرار التعيين بقرار حل البرلمان والمجالس الاربعة في الاقاليم، وبهذا يكون الرئيس الجديد مشرف قد أحيا سنة الجنرال ايوب خان، أول حاكم عسكري في باكستان، عندما افتتح حكمه عام 1958 بالغاء الدستور وحظر الاحزاب وحل الوزارة، ماسكا بيده زمام جميعها قائلا: «ان الزعيم يجب ان يكون مركز القوة السياسية وقراراتها، كما يجب ان يكون قادرا على التحكم بالاحداث وتصحيح مسارها كلما اقتضت الضرورة».

وظل جنرالات اسلام اباد، ابان حكوماتهم وقد طالت أكثر من نصف عمر باكستان (54 عاما)، أوفياء لهذه الكلمة ـ الدستور، حريصين على ممارسة «حق» الزعيم ـ الجنرال في اقالة الحكومة وحل البرلمان، وفي غضون ثلاثة عقود (1968 ـ 1999) أقيلت أكثر من 30 حكومة، بما فيها حكومات منتخبة كان آخرها حكومة نواز شريف، أطاح بها انقلاب 1999، وما فتئ الجنرال مشرف يمهد لاعلان التعيين الرئاسي ولسان حاله ومقاله يردد «للضرورة أحكامها»، بدءا بسحب البساط من تحت أقدام الاحزاب السياسية، حيث تم عزلها والغاء مشاركتها في الانتخابات المحلية، باعتبارها ـ الاحزاب ـ مصدر الفوضى السياسية والازمة الاقتصادية في البلاد. وشاركت الجنرال مشرف في حملة التنديد بالاحزاب السياسية، قطاعات شعبية واسعة تضررت مصالحها جراء تفشي المحسوبية والمنسوبية بين القيادات الحزبية. ومن هنا استقبلت هذه القطاعات قرار التعيين بترحاب لم يقل عن تأييدها واحتفائها بالانقلاب العسكري الرابع.

ولم تتطلب حملة التنديد بالاحزاب كبير جهد، حيث تعاني الاحزاب في باكستان بشكل عام من قطبية مزمنة بين القومي والديني. استأثر البنجابيون بالحكم فاستقلت بنغلاديش، ومالت الرابطة الاسلامية قليلا الى اليسار والعلمانية فلاذت الجماعات والحركات الاسلامية بالاصولية، فضلا عن قصور الاحزاب وبرامجها الايديولوجية عن حل اشكالية فهم وتعريف الوطن والوطنية. ولم تزل مقولة القائد المؤسس محمد علي جناج «باكستان وطن جميع المسلمين في شبه القارة الهندية» تؤطر ادبيات باكستان السياسية رغم استقلال بنغلاديش وتبني بعض فصائل المجاهدين في كشمير خيار الاستقلال.

واستحوذت كشمير على سياسة باكستان الداخلية والخارجية، ومن بؤرة كشمير بالتحديد استمد العسكر قوتهم ومشروعيتهم في الحكم، ومثلما تفجرت بسببها حروب ومعارك كبيرة في الخارج، قامت انقلابات عسكرية عديدة في الداخل، وعلى قدر اهمية ومركزية كشمير في باكستان وسياستها يأتي قرار التعيين الصعب كما وصفه الجنرال مشرف استعدادا للقمة الهندية ـ الباكستانية المقرر عقدها منتصف الشهر المقبل. وقد تبارى رئيسا البلدين في شحذ عزمهما وتصميمهما على الالتقاء عند منتصف الطريق وحل خلافاتهما التي كلفت بلديهما غاليا.

وقد وضع الجنرال مشرف، وهو يعين نفسه رئيسا للبلاد، نصب عينيه جملة تحديات ألمت بباكستان داخليا وخارجيا، وراحت ـ التحديات ـ تنال من مكانة الدولة ومصداقية حكومتها، ليس أقلها ـ التحديات ـ تصاعد مد الحركات الاصولية وما ترتب عليه من ضغوط وتهديدات داخلية وخارجية، وراحت باكستان تدفع ثمنا افرزته معسكرات الجهاد الافغاني ومسلسل حروبه الطويلة. فبعد ان فترت وتوترت العلاقات بين اسلام اباد وواشنطن، تعثرت جهود الصين لضم باكستان الى مجموعة شنغهاي جراء مخاوف دول آسيا الوسطى من تمدد اصولية «طالبان» عبر حدودها.

ومن بين أهم مؤشرات قرار التعيين عزم الجنرال مشرف على وضع حد ونهاية للقطيعة والعداء بين بلاده والهند كما عبر في جوابه على دعوة الحوار الهندية الشهر الماضي. وتجدر الاشارة الى ان نيودلهي كانت أول من اعترف وأيد قرار التعيين، وذهبت بعيدا في تفاؤلها واهتمامها باستقبال الرئيس الباكستاني الجديد.

وقد أعد الجنرال مشرف، وكان قد خاض معظم حروب ومعارك بلاده مع الهند، عدته وجمع قواه، بما فيها الرئاستان العسكرية والمدنية، لخوض غمار الجولة الدبلوماسية المقبلة مع الهند، والبدء من حيث قصرت حروب ومقاطعة وكراهية واسلحة تقليدية ونووية، عن فك الاشتباك ورسم الحدود الدولية بين البلدين. ويقف الجنرال مشرف عند اهمية هذا المقطع الزمني الحافل بتغييرات وتقلبات تموج بها دول المنطقة، وترتسم بصعوبة معالم جديدة في اعقاب مرحلة الحرب الباردة. واذا ما خرجت القمة الهندية ـ الباكستانية بحلول وسط بصدد أزمة كشمير، وهذا ما يتوقعه المراقبون من بعيد وقريب، عندها تبدأ اسلام اباد، ورئيسها الجديد، مشوارها الطويل في ترتيب، ان لم يكن رسم، سياستها الداخلية والخارجية من جديد. في الداخل، تبدأ اسلام اباد في كسر وتشتيت ظاهرة الاستقطاب الديني ـ القومي وما رافقها من ارث الانفصال وركامه الثقيل. ولم تقف اعراض هذا الاستقطاب ومضاعفاته الخطيرة عند حدود جبهة الحرب والمواجهة مع الهند، بل طالت الساحة الداخلية، فقد تصاعدت اعمال العنف الطائفية واتسعت رقعتها بين الشيعة والسنة من جهة، وبين السنديين والبنجابيين من جهة أخرى، وامتد الاستقطاب الديني ـ القومي الى جبهة جديدة عبر محور «طالبان» ـ افغانستان، وقد شكل هذا المحور ضغوطا وتهديدات على اسلام اباد من ناحيتين: الأولى، تهديدات الحركات والجماعات الاصولية لحكومة الجنرال مشرف «اما ان يبدأ بتطبيق الشريعة في باكستان، وإما ان تعلن الجماعات عن تشكيل حكومتها الاسلامية»، بينما كانت الثانية ضغوطا وتهديدات اقليمية ودولية ضد «طالبان» عبر اسلام اباد، باعتبار الاخيرة نافذة افغانستان الرسمية نحو العالم.

واجتمعت هذه الضغوط والتهديدات في بؤرة الاقتصاد قبل السياسة في اسلام اباد، بدءا بقطع المساعدات الاقتصادية والعسكرية الاميركية الى باكستان، الى حرمانها من مزايا اقتصادية وفرص تجارية وفرتها تكتلات ومجموعات ومنظمات اقتصادية نشطت وتوسعت بين دول المنطقة في السنوات الاخيرة، فضلا عن تعليق صندوق النقد والبنك الدوليين معظم مساعداتهما وبرامجهما في باكستان.

لقد تضمن القسم الرئاسي أمام المحكمة العليا وعود الرئيس مشرف بالاصلاح الاقتصادي. وتحمل الوعود الاقتصادية وبنودها في بيان انقلاب 1999 الأول، بين طياتها امرين اثنين، الأول: خفض النفقات العسكرية، بما فيها الترسانة النووية، وهذا ما حمله وزير الخارجية الباكستاني عزيز عبد الستار في جولته الأوروبية والاميركية والتي سبقت الاعلان الرئاسي بأيام قلائل. بينما انطوى الأمر الثاني على الانفتاح والتعاون مع دول المنطقة بما فيها الهند، من خلال المشاركة واياها في مواجهة الارهاب والتطرف والحركات الانفصالية في سبيل حفظ أمن واستقرار المنطقة.

وهكذا، تتعدد عوامل واسباب الاعلان الرئاسي، كما تكبر مستحقاته بقدر ما واجه من انتقادات وادانات، فقد وصفت الرابطة الاسلامية قرار التعيين بـ«نذير شؤم للبلاد»، يعود بها القهقرى الى دستور 1962 بتركيز السلطات الثلاث بيد الرئيس.

صحيح ان الرئيس مشرف وعد، قبل وبعد قرار التعيين، باجراء انتخابات عامة في اكتوبر 2002، كما انه وعد باصلاحات اقتصادية وتعديلات دستورية، لكن باكستان واصلاحاتها فضلا عن أمنها واستقرارها، تبقى جميعا معلقة بخيوط النزاع بين الدولتين المنفصلتين المتشابكتين قوميا ودينيا ـ الهند وباكستان ـ وما انفك هذا النزاع يجرهما من حرب الى حرب، من دون أن تتحررا من عقدة وعداوة الانفصال. ومن هنا يستمد قرار التعيين الرئاسي معظم قوته، ويبرر اسبابه ودوافعه في اطار الجهود والمساعي لاستقرار البلاد سياسيا واقتصاديا.

* كاتب عراقي مقيم في بريطانيا