رحيل المترجم

TT

عرفت في مجلة «المجلة»، في لندن، زميلا ليبيا متميزا. البداية كانت عندما تقدم للعمل حيث صارحته بالقول، أستاذ محمد، انت ليبي تعيش في المهجر، وربما أنت معارض للنظام، ككثير من الليبيين في هذه المدينة المكتظة بالهاربين العرب المعارضين لأنظمتهم. الحقيقة انا لا يهمني لونك السياسي لأن كل الزملاء مؤدلجون. بل أعرف ان كل الصحافيين في كل مكان في العالم، تقريبا، يحملون آراء سياسية منحازة بشكل صارخ، مهما ادعوا الحيادية، وهذا حقهم. الفارق ان المؤدلجين الذين يعملون معنا نائمون. الأصول انه لا يجوز أن تكون صحافيا وحزبيا في نفس الوقت، كما لا يقبل ان تمتهن المعارضة والصحافة. أما الاختيار والانحياز السياسي والتعبير الشخصي فهي حقوق لا نستطيع حرمان أحد منها، لأنها بروتوكولات التاج البريطاني.

كان يجلس في سكون مفرط الى درجة ظننته مصابا بالصمم، ثم اجاب متمتما، «ما فيه مشكلة». لم أكن متفائلا بعد اللقاء الأول ربما بحكم الصورة النمطية عن الشخص الليبي، رغم انني عرفت العديد منهم خبراء في النفط والمصارف والعلوم والفنون، لكن بكل اسف الصورة المزروعة عن الانسان الليبي، مثل الخليجي، ليست عادلة ابدا. ان ترى ليبيا امر نادر، ويكون متميزا في أي مجال نظن أنه أكثر ندرة، الترجمة الانجليزية أمر مستبعد عند الليبيين، ربما يتميزون في اللغة الايطالية الأكثر تأثيرا عليهم تاريخا وجغرافيا. طبعا، لم يكن ذلك منطقيا لأن القزيري نفسه كان زميلا في الدراسة الجامعية للصادق النيهوم، الأديب الليبي الكبير الذي كان موسوعة لغات، تحدث الألمانية، والإنجليزية والفرنسية والعبرية، والفنلندية بحكم زواجه، وكان يقرأ حتى الآرامية المنقرضة. وعاش مثل القزيري في المنفى الاختياري ومات في جنيف.

في سنوات الزمالة ميز حياة محمد القزيري الشخصية الصمت والتدخين. لم يأت من فراغ، فقد كان عضوا في الغرفة التجارية الليبية، وعمل ملحقا ثقافيا، وسبق ذلك ان اشتغل في شركة نفط اميركية وهرب منها. لم يكن يستقر في مكان واحد طويلا الا معنا.

لسنين عديدة قبضنا عليه لا نعطيه مبررا للخروج، كونه واحدا من أفضل المترجمين في العالم العربي. كنت اصفه بالملمع، لا المعرب، لأنه كان يضفي على كل مقال يترجمه روحا خاصة. وتجلت موهبته في علاقتنا مع المفكر الراحل ادوارد سعيد. فقد وافق البروفسور سعيد على الكتابة لمجلة «المجلة»، كأول مطبوعة عربية ينشر فيها، وواجهتنا معضلة أنه يكتب بالإنجليزية فقط. فكيف تعرب مقالا بحيث يعكس لغة سعيد، أستاذ الأدب الانجليزي المقارن وصاحب كتاب الاستشراق والشخصية العالمية المثيرة للجدل؟ عرفت مقالاته بلغتها الفلسفية الثقيلة، ذات جمل طويلة، ومعان مركبة. اقترح البروفسور سعيد ان تقوم أمه شخصيا بترجمة المقال. كان فخورا بها، ويستمع اليها، ولأن عربيته ضعيفة ظن ان أمه قادرة على التعبير عنه كما كانت تفعل على مائدة الطعام عندما يزوره ضيوف عرب. جاءت ترجمتها ركيكة وبسيطة، فرفضتها وحولتها الى القزيري. وبعد بضعة أشهر من مداومته على النشر زارنا سعيد في لندن وطلب ان يقابل المترجم. قال انه دهش من حجم ردود الفعل على مقالاته، وان الثناء الكبير من الناس عليه لأنهم ظنوا انه كان يكتبها باللغة العربية، لأن بلاغتها بالعربية حاكت بلاغتها بلغتها الأصلية، وحافظت على روحها.

لم تكن كفاءته محل الاحترام، بل شخصيته، ايضا. محمد القزيري، كان نموذجا للعربي الهارب من واقعه، هروب بلا مشروع دام معظم عمره حتى توفي الى رحمة الله الشهر الماضي فخسرنا بفقدانه صديقا وزميلا موهوبا مجهولا.

[email protected]