لعبة «القط والفأر» بين أميركا وإيران

TT

التقرير الاستخباراتي الاميركي الذي «قرر» ان ايران اوقفت برنامجها النووي العسكري عام 2003 يكشف عن نوايا اميركية كثيرة، قد يكون من ابرزها، ان هناك تغييراً جذرياً في التزامات ادارة الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش تجاه المنطقة وبالذات تجاه الدول الخليجية. ويحمل ايضاً دعوة الى سباق تسلح ربما يكون على الطريق النووي بين دول المنطقة «وبالذات الدول الخليجية» في ظل تذبذب المواقف الاميركية.

عندما صدر التقرير ـ المفاجأة، قال لي احد الصحافيين المخضرمين: «ان الاميركيين يراوغون، انهم يعرفون ان ايران مستمرة في نشاطها النووي العسكري، وفي هذا التقرير هم يغضون النظر عن ذلك النشاط، وبالاحرى يعطون ايران الاشارة للاستمرار فيه، وذلك كي لا يعترفوا بالارتباك الذي يتخبطون فيه». وأضاف: «لو استمرت واشنطن في القول ان ايران لا تزال مندفعة في بناء برنامجها النووي العسكري، فان الطريقة الوحيدة لإيقافها تكون بشن حرب عسكرية، لكن الآن، ومع تغاضي واشنطن عن النشاط النووي العسكري الايراني فإنها تمهد لحرب نووية في الخليج ستدمر كل شي».

منذ اكثر من عامين والرئيس الاميركي بوش يلعب مع ايران لعبة القط والفأر. كانت ادارته تهدد بعمل عسكري ضد ايران وتَعِد في الوقت نفسه شيعة المنطقة بدور اقليمي اساسي، اذا ما التزموا «اصول اللعبة»، إن كان في ايران او في العراق او في لبنان.

جاء التقرير والنشاط العسكري الايراني على اشده، وكشف الرئيس الاميركي شخصياً عن ان ايران مستمرة في تجاربها الصاروخية الباليستية، وكان في ذلك يشير الى صاروخ «عاشوراء» الذي يتراوح مداه ما بين 1250 و1550 ميلاً، وهو الصاروخ الذي ادرجه المسؤولون الاميركيون في عداد الاسباب التي تدفع اميركا الى نشر مظلة صواريخ خارقة للصواريخ في اوروبا الشرقية. وأشارت وزارة الدفاع الايرانية في 27 من الشهر الماضي الى هذا الصاروخ الذي تمت تجربته في 25 من الشهر ذاته.

وكانت ايران اعلنت في الخامس والعشرين من الشهر الماضي استعداداتها للقيام بمناورات عسكرية بحرية في مضيق هرمز، حيث يمر 80 في المائة من نفط العالم. وقال الادميرال حبيب الله ساياري ان المناورات ستجري في شهر فبراير (شباط) العام المقبل، وان «بحر عمان» سيشهد في تلك المناورات ولادة صنف جديد من الغواصات الايرانية، و«طمأن» ساياري العالم، الى ان ايران لا تخطط لإغلاق مضيق هرمز «لكننا مستعدون للقيام بأي عملية لحماية مصالحنا».

من جهتها، اعلنت البحرية الاميركية انها ستقوم هي الاخرى بمناورات عسكرية في التاريخ نفسه بالقرب من مضيق هرمز على اساس ان تكون بكامل استعداداتها اذا ما حاولت ايران اغلاق المضيق.

ما هذا الذي نشهده؟

هل هو سباق بين الولايات المتحدة وايران على المنطقة، وكأن الاميركيين تناسوا رائعة ادوارد ألبي: «من يخاف من فيرجينيا وولف»، فاستعارها الايرانيون بعنوان: «من يخاف من ايران»، لنجد انها اميركا.

واستذوقت ايران دور المنتصر، ودعمتها في ذلك روسيا، فأعلنت بعد صدور التقرير انها سترسل اول شحنة من الوقود النووي الى ايران قبل نهاية العام، وبالفعل جرى ذلك يوم الاثنين فقالت طهران: انها لن توقف تخصيب اليورانيوم. وقالت روسيا: «ان لديها توقيعاً خطياً من ايران بعدم الوصول الى التصنيع العسكري لليورانيوم». والأمل ألا يكون التوقيع الايراني بنفس مستوى مصداقية الوعود الروسية.

وإمعانا في الاستمتاع بدور المنتصر، قال الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد يوم الاحد الماضي ان نشر التقرير الاميركي الذي يقول ان ايران اوقفت برنامجها النووي العسكري عام 2003 هو بمستوى: «اعلان الاستسلام» الاميركي لإيران.

الشهر الماضي، وضع انطوني كورديسمان مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة جورج تاون دراسة محتملة عما يمكن ان يحل في ايران لو قررت اسرائيل اللجوء الى كل طاقاتها النووية في اي هجوم تشنه على ايران، قال: ان ما يراوح بين 18 و28 مليون ايراني سيموتون، وتكون النتيجة «نهاية الحضارة الفارسية». وقال سيموت في المقابل 200 الى 800 الف اسرائيلي. لكن اسرائيل «ستستعيد عافيتها». ورأى كورديسمان ان الطريقة الوحيدة للفوز تكون «في عدم اللعب او المحاولة».

يصعب الاقتناع بأن ادارة بوش «استسلمت» فعلاً الى واقع حصول ايران على القدرة النووية العسكرية، وقد تكون ادارة بوش تأمل في الوصول الى موعد انتخابات 2008 الرئاسية مع حجة مبدئية تتيح لها الادعاء بأنها حققت بعض النجاح في العراق الذي لا تستطيع التوصل اليه من دون «تهدئة» ايران. وربما تقوم مغامرة بوش في تأجيل المواجهة مع ايران، على ان العام المقبل ليس بالكافي لحصول ايران على السلاح النووي، وان خليفته في البيت الابيض، سيكون امامه الوقت الكافي لمنع ذلك الامر. لكن الخطير في الامر، ان الحرب كثيراً ما تقع عندما يكون امام المتورطين فيها الكثير مما سيخسرونه!

لكن، كيف صدر ذلك التقرير الذي منح هذا الكم من التحدي لإيران، وعلى ماذا اعتمد ومن هم واضعوه؟

عندما «اطاح» الرئيس بوش وزير دفاعه السابق دونالد رامسفيلد، فيما اعتبر انقلاباً على «المحافظين الجدد»، وضع مكانه روبرت غيتس المصنف على قائمة «الواقعيين». وكان من اهم انجازات غيتس التقرير الذي اعده زبيغنيو بريجنسكي لمجلس العلاقات الخارجية. جاء في ذلك التقرير: «نظراً الى تاريخها وجوارها المتأجج، فان طموح ايران النووي لا يعكس حسابات استراتيجية غير منطقية»، ووضع التقرير الحق على واشنطن التي «استفزت ايران ودفعتها الى البحث عن السلاح النووي بسبب غزو العراق»!

تجدر الاشارة الى ان غيتس عندما كان مسؤولاً كبيراً في جهاز الـ«سي.آي. إي» عارض وبشدة كل المبادرات التي اطلقها الرئيس رونالد ريغان والتي اكسبته الحرب الباردة، اما بريجنسكي فهو صاحب نظرية، دعم وإبراز التطرف الاسلامي «القادر وحده على مواجهة الشيوعية».

اما واضعو التقرير الاخير: توماس فينغار الذي بذل اقصى الجهود لنقض كل التقييمات الاستخباراتية عن ايران، فوضع مسودة التقرير بمساعدة فان فان دييبن ضابط الامن القومي عن اسلحة الدمار الشامل، وكينيث بريل السفير الاميركي السابق للوكالة الدولية للطاقة النووية. الثلاثة تجاهلوا اتقان ايران بث المعلومات المغلوطة وقرروا ان دولة لديها منشآت نووية سرية وترفض التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة النووية وتعترف بامتلاكها ثلاثة آلاف جهاز طرد مركزي لتخصيب اليورانيوم، هي دولة بنظرهم لا تهدف الى الحصول على الاسلحة النووية.

المثير للسخرية، ان فنغار لا خبرة لديه على الاطلاق في الشرق الاوسط، والمعروف عنه انه معاد لجمع المعلومات الامنية عبر العناصر البشرية. بدأ عمله الاستخباراتي في السبعينات، كبارع في اللغة الالمانية، في مكتب نائب المسؤول الامني الاميركي في هايدلبرغ، بعد ذلك، وهو المتخصص في الصين، امضى سنوات في التعليم الاكاديمي، وكمستشار لبعض المسؤولين في وكالات الحكومة الاميركية.

استعادت حياته العملية في مكاتب الحكومة الاميركية بعض البريق بفضل وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس التي عرفته في جامعة ستانفورد، وعام 2004 تم تعيينه مساعداً في مكتب الامن والأبحاث التابع لوزارة الخارجية، وبعد اقل من عام عُين نائباً لمدير الامن القومي للتحاليل ورئيساً لمجلس الاستخبارات الاميركية.

اما مساعده بريل، فقد أُبعد عن وزارة الخارجية زمن كولن باول لفشله في تقديم القضية ضد العراق في الوكالة الدولية للطاقة النووية، وفي ما بعد، اعاده مدير وحدة الاستخبارات القومية جون نغروبونتي على رأس مركز الحد من انتشار الاسلحة. اما فان دييبن فانه من اكبر المعارضين داخل وحدة الاستخبارات لأية عملية عسكرية اميركية ضد ايران، وعام 2002 دافع عن حق ايران في التخصيب النووي في ظل معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية.

اذا كان رامسفيلد وديك تشيني نائب الرئيس اتهما بأنهما كانا يضعان النتيجة ويطلبان من العاملين لديهما في الحقل الامني وضع التفاصيل والدراسات التي تؤدي الى تلك النتيجة، فهل ينطبق الامر على رايس ونغروبونتي؟

في ملاحظة وردت في التقرير جاء في تعريف «برنامج الاسلحة النووية»، ان هذا لا يعني ان عمل ايران المدني مرتبط بتحويل اليورانيوم او تخصيبه. وعندما سئلت اللجنة الامنية في الكونغرس، كيف توصل فينغار ورفاقه الى استنتاجات التقرير، رفضت الاجابة.

وزير الدفاع غيتس عاد واعترف بأن ايران مستمرة في برنامجها النووي. على كل، لا زالت ايران قادرة على تحريك الفوضى في العراق عندما تريد، وستزيد قدرتها على فعل ذلك عندما يزداد اللا استقرار فيه، خصوصا مع انسحاب البريطانيين من البصرة. ان الوقت في هذه الحالة الى جانب طهران، وبعد التقرير سيصعب على واشنطن اللجوء الى الخيار العسكري لمنع ايران من الحصول على السلاح النووي. ان الميزان العسكري في المنطقة يميل لصالح الايرانيين بفضل سوء التقدير الاميركي المزمن.