دمشق: هل تراجعت عن «التراجع»؟

TT

كأن تأكيدات الرئيس بشار الأسد في التصريحات التي أطلقها قبل أيام، لمناسبة تدشين مصنع للسيارات في مدينة حمص، التي قال فيها، لا شيء من الممكن أن يؤثر على العلاقات «الإستراتيجية» بين سوريا وإيران، قد جاءت ردّاً على الانطباع الذي ساد في الفترة الأخيرة بأن دمشق قد ابتعدت عن طهران، وأنها بذهابها إلى مؤتمر أنابوليس قد فكَّت عرى تحالفٍ بدأ مع بدايات انتصار الثورة الخمينية وبقي في تصاعد مستمر وأخذ أشكالاً متعددة أهمها الابتعاد عن الدول العربية «المعتدلة» التي تُتَّهم بأنها تنسق سياساتها حتى بالنسبة للشرق الأوسط وقضاياه الملتهبة بالتلاؤم مع المواقف والسياسات الأميركية.

وحقيقة أنه ساد انطباع، وبخاصة بعد زيارة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني الأخيرة إلى دمشق، بأن سوريا بدأت تتخلى عن تحالفها «الإستراتيجي» مع إيران، وأنها غدت بصدد إعادة النظر في القطيعة بينها وبين معظم الدول العربية، وجرى الاستدلال على هذا بالتأكيدات السورية المستجدة على رفض أي مسٍ بمنظمة التحرير الفلسطينية، وعلى أن محمود عباس (أبو مازن) هو الرئيس الشرعي للشعب الفلسطيني وأيضاً بإفشال عقد مؤتمر لمنظمات الرفض الفلسطيني بتمويل إيراني معلن للتشويش على مؤتمر أنابوليس، وعلى جهود استئناف العملية السلمية.

وانطلاقا من هذا الانطباع، فإن كثيرين اعتقدوا أن هذا التحول المتمثل في التباعد بين طهران ودمشق سوف ينعكس انفراجا حقيقياً على الأزمة اللبنانية المستفحلة وعودة للأيام السابقة بين رام الله وغزة وبين حركتي «فتح» و«حماس»، وذهب الأكثر تفاؤلاً إلى أن نهاية مأساة العراق باتت قريبة، وأن صفحة جديدة سوف تُفتح بين أميركا وإيران، وأن هذه المنطقة التي أرهقها التوتر وأنهكتها الاستقطابات سوف تنعم بفترة هدوء حقيقي سينعكس على الصراع العربي ـ الإسرائيلي إيجابياً وسيعطي الفرصة المطلوبة للاهتمام بالاستثمار والتنمية بدل الانشغال عنهما بالحروب والمواجهات. فهل هذا حصل.. وهل هذا سيحصل خلال فترة قريبة لاحقة.؟!.

هناك مؤشرات كثيرة تعزز القناعة بأن هذا التفاؤل الآنف الذكر لم يكن إلا مجرد أمنيات لبعض العرب الذين أوجع قلوبهم أن تصل الحالة العربية إلى ما وصلت إليه من تنافر وتحالف إقليمي على حساب القضايا القومية، والذين يرون أن استحقاق القضية الفلسطينية الذي دخل مرحلة جديدة يحتاج إلى نبذ الخلافات الجانبية والى توحيد المواقف وعودة كل من ذهبت به الطرق بعيداً إلى الحضن العربي الذي من المفترض أن لا بديل له.

لقد ازداد المأزق اللبناني المتفاقم تفاقماً وفشلت ثماني محاولات لانتخاب رئيس جمهورية جديد واستمر مسلسل الاغتيالات وضرب في المرة الأخيرة في قلب المؤسسة العسكرية، وهذا كله يعني أن التحالفات الإقليمية السابقة لا تزال على ما كانت عليه، وأنه من المبكر الحديث عن انقلاب المعادلات القديمة، وأن وحدة الموقف العربي غدت في متناول اليد. ثم ورغم أن حركة «حماس» رفعت راية الوحدة الوطنية والدعوة لإنهاء الانقسام الجغرافي والسياسي، بينها وبين حركة «فتح»، وبين غزة ورام الله فقد ثبت أن كل هذا كان مجرد مناورة، ربما بالتنسيق مع طهران وغير طهران، هدفها اعتراض طريق مفاوضات الحل النهائي التي بدأت تنفيذاً لما تم الاتفاق عليه في مؤتمر أنابوليس. وهنا، وعلى هذا الصعيد، فإن ما عزز الانطباع بأن دمشق ربما تكون قد تراجعت عن «التراجع» أن نائب الرئيس السوري فاروق الشرع، المـُصنَّف من «صقور» نظام الرئيس بشار الأسد، والذي يعتبر الأكثر تهورا في التعاطي السياسي مع الدول العربية «الشقيقة» قد أطلق تصريحات تناقلتها وكالات الأنباء ونشرتها الصحف يوم الخميس الماضي لا يمكن المرور عليها مرور الكرام. فماذا قال الشرع في هذه التصريحات التي أطلقها في اجتماع لقادة الجبهة الوطنية السورية الذين لا يدعون للاجتماع في العادة إلا من قبيل الإخراج

«الديكوري» للمواقف التي تعتبر بمثابة انعطافات حادة في توجهات سورية بالنسبة لسياساتها العربية والخارجية...؟!.

لقد قال، بأسلوبه الادعائي والكيْدي المعروف، أن دمشق في لبنان الآن أفضل مما كانت عليه سابقاً، وأن حلفاءها هناك أصبحوا أكثر قوة مما كانوا عليه في فترة وجود القوات السورية ولذلك: «فإن أحداً لا يمكنه أن يكسب المعركة ضد سورية هناك»، وهو قال أيضاً لقد ذهبت سوريا إلى مؤتمر أنابوليس ولم يكن لديها أية أوهام.. لكنها حققت نتيجة هامة.. إن ذهاب سوريا ألغى فكرة تحالف المعتدلين ضد المتشددين لقد كان هدف هذا المؤتمر هو محاصرة سوريا وحزب الله وحماس وإيران!!.

ولعل ما أعطى انطباعا بأن سوريا ربما تكون تراجعت فعلاً عن تراجعها الأخير بالنسبة لسياساتها وتحالفاتها السابقة أن الشرع أطلق تلميحات واضحة المعاني والأهداف قال فيها: «إذا تبين أن البعض يريد بمزاج شخصي أن يعاقب سوريا بعدم حضور القمة المقبلة، فإنه سيشعر بالخطأ عندما لا يأتي إلى هذه القمة» والمقصود هنا هو المملكة العربية السعودية.. ونائب الرئيس السوري قال أيضاً في مجال التطرق لزيارة الملك عبد الله الثاني الأخيرة إلى دمشق: «إن الأردن بحاجة إلى هذه الزيارة سواء بشأن المياه التي تأتي من سورية أو بشأن المخاوف الأردنية من الوطن الفلسطيني البديل».. والحقيقة أن هذا غير دقيق وغير صحيح على الإطلاق فالهدف الأساسي لهذه الزيارة كان إخراج سوريا من عزلتها وإعادتها إلى الصف العربي وإعادة تنقية الأجواء بينها وبين معظم الدول العربية.

إن ما يعرفه الشرع، الذي كان أبعد تماماً عن أجواء زيارة الملك عبد الله الثاني إلى دمشق أن مياه روافد نهر اليرموك التي لا يجوز أن تحبسها دولة ترفع راية: «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» عن دولة مجاورة شقيقة ليست هي التي دفعت العاهل الأردني إلى هذه الزيارة بل هو الخوف على سوريا من عزلتها ومن أوضاعها الداخلية السيئة ومن أن تتورط أكثر وأكثر في لبنان ومن أن يستدرجها حلفاؤها الإيرانيون إلى مواجهة مع أميركا وإسرائيل ستكون مكلفة وربما مدمرة.. ثم وإذا كان نائب الرئيس السوري لا يعرف فإن عليه أن يعرف أولاً، أن الشعب الفلسطيني متشبث ومتمسك بوطنه وأنه لا يمكن أن يقبل وطناً بديلاً عن هذا الوطن وثانياً، أن الأردن دولة راسخة وقوية وأن شعبها موحد وعلى قلب رجل واحد وثالثاً، أن اتفاقيات «وادي عربة» أنهت أي تفكير للإسرائيليين في هذا الأمر وبضمانات دولية مؤكدة. وأخيراً، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن هناك معلومات ترددت أخيراً تحدثت عن أن الرئيس بشار الأسد أبعد الشرع وبعض رموز التطرف عن دائرة صنع القرارات السورية الرئيسية، ولذلك فإنه لا يمكن تفسير هذه التصريحات التي لا تنسجم مع سياسة «المرونة» التي أظهرتها دمشق في الفترة الأخيرة إلا بأمرين فإما أن يكون هذا هو موقف دمشق الفعلي والحقيقي وهذا يعتقد كثيرون أنه مستبعد وغير ممكن، وإما أن تكون هناك أزمة مواقف داخل مؤسسة الحكم في سوريا، وأن نائب الرئيس السوري قال هذا الذي قاله بهدف «التوريط» والمشاغبة.. وأغلب الظن أن الاحتمال الثاني هو الصحيح.. والله اعلم !!.