عودة الى العام 2005؟

TT

أقل ما يمكن أن يقال عن اللعبة البرلمانية في لبنان أنها هزلت.

هزلت الى حد دفع بلدا «مستقلا» على استجداء انتخاب رئيسه من القاصي والداني خارج حدوده.. عوض المواطن اللبناني المفترض أن يمثله نوابه في البرلمان. هزلت الى حد ارتقى فيه العملاء الفخورون بعمالتهم إلى مستوى عفاف «امرأة قيصر»: فوق الشبهات. هزلت إلى حد أتاح للصغار التنطح للعب دور القوامين على الكبار وعلى موقع رئاسة الجمهورية بالذات. وهزلت الى حد أتاح لنظام شمولي أن يوظف المعارضة «الديمقراطية» في لبنان في عملية عرقلة مدروسة للاستحقاق الرئاسي. أيرجى خيرا من برلمان ولاء نحو ثلث نوابه «مضمون» للخارج ـ سواء كان ذلك بالأصالة أم بالواسطة ؟

ولكن المفارقة التاريخية تبقى في تنطح أكثر البرلمانات ارتهانا للخارج في تاريخ «الاستقلال» اللبناني إلى تحويل منصب الرئاسة في بلاده إلى رهينة لأربابه عبر الحدود، وكأن المطلوب أن يصبح الرئيس اللبناني الجديد «رهين المحبسين»؟ واضح أن شروط حلفاء سورية التعجيزية لانتخاب رئيس للبنان ليست شروطا لبنانية بل شروط سورية تعود جذورها الى العام 2005، وتحديدا إلى رغبة دمشق في الرد على القرار الدولي 1559 الذي اعتبر التمديد السوري لولاية الرئيس السابق إميل لحود «مخالفا للدستور». أما الاسلوب فهو إظهار عجز مهندسي القرار الرئيسيين، الولايات المتحدة وفرنسا، عن تأمين عملية انتخاب ديمقراطي لخليفة لحود.

بالنسبة لسورية، الأدوار انقلبت: إذا كانت واشنطن وباريس اعتبرتا تمديد دمشق لولاية إميل لحود عام 2005 غير شرعي.. فلتجربا عام 2007 انتخاب خلف شرعي له من دون «رضاها».

قد تبدو المعادلة القائمة حتى الآن على صعيد الاستحقاق الرئاسي محاولة لمساواة «شرعية» سورية في لبنان «بشرعية» الغرب. ولكن ذلك لا يعني أن موقع باريس وواشنطن اليوم أسوأ من موقع دمشق عام 2005، فلو كانت دمشق أكثر نفوذا في لبنان آنذاك ـ رغم وجودها العسكري والاستخباراتي ـ لانتخبت رئيساً «مطيعاً» لولاية كاملة (ست سنوات) عوض الاكتفاء بتمديد ولاية إميل لحود لثلاث سنوات فقط.. وبواسطة التهديد والوعيد.

إلا ان المؤسف أن فرنسا، بنواياها الحسنة تجاه لبنان ورغبتها في إقناع الولايات المتحدة باحتفاظها بنفوذ ولو معنوي في لبنان، عززت في وساطتها المتسرعة نفوذ سورية في لبنان عوض ان تساهم في تحجيمه، فوقعت في شرك وعود دمشق المعسولة لتكتشف، متأخرة، أن النظام السوري استغلها ليسهّل وصوله الى مؤتمر أنابوليس، وخدعها ليبقي الفراغ الرئاسي في لبنان.. ومن ثم يستثمره، عبر شروط النائب ميشال عون «البريئة»، للعودة الى نظام «كوندومينيوم» سياسي مع الغرب في بيروت.

دبلوماسية التعامل مع سورية «فن» لم تتقنه بعد حكومة نيكولا ساركوزي الحديثة العهد في قصر الاليزيه. وسياسة «العصا والجزرة» التي مارستها معها، والتنازلات التي قدمتها ووعدت بها كرّست دور سورية في القرار الرئاسي اللبناني وعززت، في الوقت نفسه، موقع حلفائها الى حد تشجيعهم على تكبيل ترشيح العماد ميشال سليمان للرئاسة بسلة من الشروط التعجيزية والقيود المسبقة. قد يعود فشل الوساطة الفرنسية مع سورية إلى كون فرنسا أعجز من أن تقدم لسورية «جزرة» تتجاوز حدود لبنان فيما المطلوب، عند سورية، صفقة إقليمية شاملة تبدأ بالمحكمة الدولية وتنتهي بالملف النووي الايراني.

مراوغة النظام السوري قد تنقل الملف الرئاسي اللبناني من غرفة العناية الفرنسية «المباشرة» الى غرفة العناية الاميركية «الفائقة» وتزيده بالتالي ارتباطا بالوضع الاقليمي كله.. وهذا، في نهاية المطاف، ما تسعى إليه دمشق وحليفتها اليتيمة، ايران.

أما لبنانيا ـ إذا جاز فصل الوضع الداخلي عن المؤثرات الخارجية ـ وبعد تسع محاولات محبطة لانتخاب رئيس جديد للبنان، وتحديدا بعد المحاولة الاخيرة التي جرت في أجواء شبه إجماع على انتخاب العماد ميشال سليمان، فقد بات أكثر المطالب السياسية إلحاحا حلّ البرلمان الرهين لسورية وإيران وإجراء انتخابات جديدة وفق قانون مدروس لا يكون أصدق تمثيلا للبنانيين فحسب بل أقل عرضة لتحكم أحزاب الطوابير الخامسة في ارادة الناخبين. من هنا تبدأ المعركة الفعلية لاستقلال لبنان.