المسكوت عنه في تاريخ لبنان الاجتماعي.. الخوف الجماعي وعقدة التبعية

TT

* هل المسكوت عنه (L"Impensé)، (L"Impensabla) هو اللامفتكر فيه، أو مالا يمكن افتكاره ولو صمتاً أو همساً، خوفا من حاكم ظالم لا يرى رأيا آخر الى جانب رأيه قد ينافسه وقد يعلو عليه فيغلبه؟ إن هذا التساؤل الفلسفي التجريدي يخفي على صعيد «فلسفة الرأي» الحامل الاجتماعي لهذه المشاكلة، كما يطمس في تاريخنا الاجتماعي الحديث الخوف الجماعي، الموروث والمحفور في ذاكرة اجتماعية تكرر ولا تفكر، الا في صمتها، لكأن المعرفة العامة نقل كبت عن كبت، فيما المعرفة الخاصة وصل صوت بصوت. فبين المسكوت والمكبوت قرابة آيديولوجية، تعززها في بلادنا سلالة ثقافية، يلتبس عليها التفريق بين التفاكر (أو التعارف الاجتماعي) والتناكر (أو التكاذب الفكري الى حد النفاق الجماعي العام والمشترك)، وبلغتنا الفلسفية الاجتماعية نفترض ان عقلية التباسية، تلبيسية Mentalite Confusiouniste قد سهلت هذا التخليط الاجتماعي ما بين العقلانية، الصادرة عن التفكير، الحر، المستقل، الآمن من الخوف، والمغتني بنفسه عن المال والجوع، والجهلانية، الوافدة كالحمى الدائمة، من عقدة التبعية الجماعية تجاه الحاكم أو الخارج والمعبر عنها بعبارات نفاقية، وكأن الناس في نفق لا ينتهي، يمارسون فيه تبعيتهم او محبوسيتهم المفروضة عليهم، بل المعتمدة لدى بعضهم كعقيدة كبتية امام الحاكم الأعمى أو القدر الأعمى.

وفي هذا السياق، كان الرهان الدائم كما حلم ابو العلاء المعري على قيام العقل بدوره الناطق في الكتيبة الخرساء، أو بدوره الرائي في الجماعات العمياء، التي يقودها اعمى أو عميان ـ لكنهم مزودون بسيوف، وحالياً بكواتم صوت وأجهزة تنصت.

الجهالة نعمة وبهذه العدة الجهلانية، صار نقل الجماعات اللبنانية، ما بين 1919 و 1975، من كاتم الصوت العثماني (باسم السلطان الديني/ العسكري)، الى كاتم الصوت الافرنجي (باسم السلطان الاستعماري، كبطل حضاري آخر، صار يدعى اليوم العولمة الاميركية ـ الصهيونية)، وصولاً الى كاتم الصوت المحلي الذي كانت تنتجه، في الخفاء وفي العلن، الجراثيم الطائفية ـ مصدر كل جراثيم العنف الاجتماعي الذي صار مواكباً لظاهرة التخاوف الاجتماعي (داخل كل طائفة من أزلام الزعيم وقبضاياته وسماسرته وزبانيته في السلطة، وبين كل طائفة وطائفة بتغذية من «رجال دين»، يظنون انهم يخدمون دينا منقذا، فيما هم يهدمون مشروع وطن واحتمال دولة ورؤية مستقبل جديد، وهكذا، توالدت وتصاهرت ما بين اللبنانيين، عقدة التبعية للخارج، وعقدة التعادي الغبي في الداخل. وفي كل حال راح المنفاخ الطائفي يؤجج نار الغرور والتعصب للحميات الجاهلية او الجهلانية، حتى ظن القوم ان الجهالة نعمة، والمعرفة نقمة، وابداء الرأي قلة عقل (ضب لسانك ـ لسانك حصانك، الخ) فكانت صيانة الجسم الاجتماعي تتم بقطع اللسان، كبتيا او سيفيا، واللسان المقطوع هو تتمة للرأس المقطوع، فكان هذا الانسان الاشوه، اللاطبيعي، محكوما بآلية «عبودية الفم والفرج» محروما من «حرية اللسان والعقل». الى متى؟ الى الآن ما زلنا نمارس عبودية او تقية الحيلة. فنتشاطر من الداخل، ونسمي انشطاراتنا الذاتية شطارة، لكن شطارة على من؟ ولمصلحة من؟.

يخال المكبوتون التابعون اجتماعيا وسياسيا، اقتصاديا وثقافيا انهم ابطال و«ابرياء» و«اذكياء» في غبائهم الجماعي ـ اذ يقولون شيئا هنا، وشيئا آخر، ثم يغولون ما لا يقولون في اي مكان، كما اخذ على بعض الشعراء، لا على الشعر نفسه. وبذلك لا يدركون انهم يخونون مجتمعهم بقدر ما يختانون انفسهم، وان مطلب العقل العلمي هو وقف هذه الخيانة المعرفية، والبدء بمغامرة جديدة، مغامرة ابداء الرأي بلا تورية، والافصاح عن المكنون، حتى لا يكون للخوف الاعمى، ووليده العنف الاعمى، سلطان على اللبنانيين! ان ثقافة التبعية الاجتماعية هي التي نسجت اواصر العداوات الظنية بين لبنانيي القرن العشرين، فيما ثقافة الاستقلالية العقلية لا تزال موءودة، وليس من يسألها بأي ذنب قتلت؟

هنا الصراع الاجتماعي على تمديد التبعيات المحلية جيلا بعد جيل، فاق القدرات النخبوية المحدودة على ازدراء الحداثات الانسانية، الرامية الى جعل الانسان يرى بعين رأسه وبعين عقله معا ما هو اشكالي في العلائق بين اللبنانيين. نعم، نحن نعيش في مجتمع يأكل افكاره، على عقمها، ويقاوم الافكار الجديدة، الحية، فيتهرب من مواجهة الحاضر، وينطوي في عراجين ماضيه العقيم، ممجدا الموت، باكيا عليه، وساخرا من الحياة ومطالبها، ممانعا للقراءة والمعرفة وتفهم ما يحدث، معتقدا ان في العقم «السلامة» وفي «الاخصاب» الندامة! إلا ان روادا في السياسة والأدب والفلسفة سارعوا الى نقض هذه الغزلة الاجتماعية اللبنانية، فاحدثوا اختراقات في جدران النظام المعرفي الطائفي، لكنهم لما يكسبوا معركتهم الفكرية، معركة المكتوب بإزاء المكبوت. ومن المعروف ان المعارك الفكرية هي أرقى المعارك الاجتماعية، وآخرها، فكانت المعارك السياسية، العنفية غالبا، تقدم على لبنان من خارجه ومن داخله، لتجديد عقدة التبعية، وتمتين المخاوف الاجتماعية، وتأخير نهايات المعارك الفكرية، والاقتصاص من المفكرين ـ نفيا واعداما واغتيالا واضطهادا ـ في كل حال للمبدعين ولمصلحة البليدين ـ حيث صارت الديمقراطية الطائفية، مثلا، هي ديمقراطية الرديئين المبلدين mediocres Democratic des فكيف بالحروب التي شهدها اللبنانيون، بيضاء وحمراء، كلما اقتربت فكرة تنويرية من اتيان ثمارها؟

لا يخفى ان المجتمع اللبناني صراعي بامتياز، وفيه النفاقية والصدقية، على أرض واحدة، وأحيانا في جسم واحد، وليس من قبيل المصادفة ان يقول ما قاله أديب حداد (أبو ملحم) في زجلياته في الستينات:

شعب يمزق ألف جلال حتى ينال استقلالو وشعب يدوس الاستقلال حتى يحافظ عَ جلالو! فهل هما شعبان أم شعب واحد يمارس التبعية والاستقلالية كأنهما شيء واحد؟ ثم يدعي الطائفية والوطنية، ويمارس الجهلانية والعلمانية، كأنهما لا يتنافيان؟ لقد أخطأ القائل بأن المسيحية والاسلام هما المتنافيان على أرض لبنان، وبات من الضروري التصويت بالقول: إن المتنافيين المتناقضين، اجتماعيا، هما الآمن بتبعيته والخائف من استقلاليته، هما المفتكر بمجتمعه، والمتنكر لحقيقة ما يجري فيه، وهما المعلن لرأيه والكاتم لصوته.

ويبقى ان جمهورية الاحتكار الطائفي قد اثبتت رداءة سياستها، وموت ثقافتها، وان جمهورية العقلانية الوطنية اللبنانية ما زالت على خط النار تسعى الى توليد زهرتها الجديدة. واليوم يعي اللبنانيون ان أجمل التاريخ ما سيكون غداً، بعدما كانوا السباقين، ولو بمأساة، الى نيل استقلالهم ورفض «انجلال» الاجنبي، والى تأسيس دولة الاستقلال الأول، والمشاركة في تأسيس جامعة الدول العربية والأمم المتحدة ومشتقاتهما، مثلما كانوا وما زالوا السباقين الى خوض اطول معركة شعبية داخل الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وتكليلها بتحرير الأرض عنوة، وبمائة الف شهيد، ومائتي الف جريح، و 25 مليار دولار مديونيات حتى الآن، وما زال أمامهم تحرير لبنان من مزارعه «الداخلية» التي جار بها الأجنبي والتي يرفضها هذا الشعب، الى جانب تحرير «مزارع شبعا» وغيرها، في أفق استقلال سياسي واستغلال اقتصادي، متممين لمعنى بقاء شعب لبنان حياً وحراً، جديراً بكل سيادة وطنية وعربية وبين الأمم، لقد كسب لبنان نفسه، وكسب العرب من دمه واقتصاده، وقدم للجميع أنموذجاً جديداً للصراع الاستقلالي. يا مرتا اللبنانية فهل سيقدم نموذجاً للاستقرار السياسي ـ الاقتصادي؟ هذا يتوقف على التلبنن الاجتماعي، على التوطن النهائي لجميع اللبنانيين في جغرافية حضارية، لا في جغرافية طائفية وهمية، ولا في تبعية مالية أو عسكرية أو سياسية، لا تعود علينا بغير العنف والأذى. فاستقلال لبنان الحاضر هو امانة وطنية في اعناق الجميع، وهو استقلال للعرب، وليس «استقلالا» عن قضاياهم، ولا عن محيطه الطبيعي، وقد يأتي وقت قريب يستفيق فيه العالم العربي على هذا الانموذج اللبناني للتحضر من خلال التطور، وللتنوع من خلال التوحد، وللاستقلال في اطار العولمة. فهل يدرك اللبنانيون انفسهم ما قدمت ايديهم وما اخرت؟ وهل يبادرون الى نقد اخطائهم سواء في تعاملهم مع عدو، أم في تحالفهم مع شقيق أو صديق، على حساب الاستقلالية الوطنية نفسها؟

ليس مسموحاً السكوت، من وراء ضوضاء الدهماويين (الديماغوجيين)، عن اخطاء العملاء، ولا عن اخطاء الحلفاء، فالمطلوب يا مرتا اللبنانية، الا تكوني امرأة لأي قيصر، وان تعاودي تجربة «اوروبة» اللبنانية، بقوة الجبال، وحرية البحار، وان تعاودي تنقية المناخ الحر من تلويثات «العبيد» الجدد. فأنت يا مرتا الأم الوطنية البانية والباقية فوق المكبوت والمسكوت عنه. أنت المكتوب الذي نقرأ بعضاً من مزاميره على ايقاع الكتاب اللبنانيين، وبصوت المبدعين فيه، غير التابعين لإبداعهم إلا بابداع آخر. فيما المسجونون في وادي ظلال الموت، يحملون حجراً من حجارة القدس الجديدة، لرجم ابليس واخوانه المناحيس في نهر الوزاني!.

* استاذ في الجامعة اللبنانية