شخصية العام!

TT

لماذا اختارت مجلة تايم الأمريكية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصية العام 2007، رغم العديد من سياساته ومواقفه التي عبّرت إدارة بوش عن انزعاجها منها مراراً، مكررة اتهامها الدائم لمعارضيها: «التأثير السلبي لسياساتهم على السلم والأمن الدوليين»، وكذلك رغم كلّ الملاحظات الانتقادية العلنية التي لا يتردد بوتين في إطلاقها عن الطريقة التي تتعامل بها الإدارة الأمريكية مع روسيا؟

في محاولة الإجابة عن هذا السؤال يقول ريتشارد ستينغل في مجلة التايمز: «إن شخصية العام في مجلة التايمز ليست مسابقة للشهرة ولكنها تعبير عن رؤية ثاقبة للعالم، كما هو اختيار لأهمّ الشخصيات والقوى التي تؤثرّ في هذا العالم سلباً أو إيجاباً، ولذلك فإن شخصية العام هي الشخصية القيادية الجريئة التي تغيرّ الواقع». ويضيف الكاتب: «خلافاً للأفكار والمبادئ التي تتبناها الدول الحرّة فقد قام بوتين بدور قيادي متميزّ وحقق الاستقرار في بلد نادراً ما عرفه، وأعاد روسيا إلى طاولة القوى العالمية. لذلك السبب فإن فلاديمير بوتين هو شخصية عام 2007» (مجلة التايم 19كانون الأول 2007).

وفي مقابلة مع المجلة نفسها بهذه المناسبة قال الرئيس بوتين: «لقد حاولنا في السنوات الخمس عشرة الأخيرة أن نكون في كلّ سياساتنا أصدقاء للولايات المتحدة، ولكنّ انطباعنا هو أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى أصدقاء، ولكنها تحتاج إلى تابعين يتلقون الأوامر.. » وأضاف بوتين: «لذلك فهم يعتقدون أننا والآخرين غير متحضرين ويريدون أن ينقذونا من بدائيتنا إلى حضارتهم». وأكد بوتين: «كما يحاولون إثارة القلاقل في بلدنا وبلدان أخرى من خلال «مجموعة من الهامشيين» الذين يسمونهم بالمعارضة الديمقراطية أو الليبرالية». وعبّر بوتين عن جوهر موقفه حين سألته المجلة: «ما هو شعور بوتين اليوم وقد وصفه شعبه بأنه القائد القومي». كان ردّ بوتين «لم أشعر ولن أشعر بأنني قائد قومي، ما أشعر به هو أنني حصان عمل لجرّ عربة ثقيلة، ويجب أن أعترف أنني، بشكل عام أشعر بالسعادة، إذا رأيت أنني تمكنت من التحرّك بسرعة وكفاءة في هذا الاتجاه».

إن اختيار المجلة للرئيس الروسي بوتين شخصية العام، وهو الذي عاد ليتعامل مع واشنطن كندٍّ في مواضيع عديدة مثل التصعيد الأمريكي للتسلح بنشر الدرع الصاروخي في أوروبا، وأيضاً ضد انفصال كوسوفو، وفي موضوع الملف النووي الإيراني، وهو الذي يبني لإيران محطة بوشهر الكهرونووية، وهو الذي زار ايران رغم تحذيرات المخابرات الأمريكية من أنه قد يتعرض لعملية اغتيال تودي بحياته، وهو يعرف أنها ضليعة بمثل هذه الاغتيالات. إن هذا الاختيار بحدّ ذاته له مدلولات تتجاوز التجربة الروسية لتقول للعالم إن البشر الطبيعيين الأسوياء يحترمون بالنتيجة من يحترم ذاته وكرامته، وعزة بلده، ومصالح شعبه وهويته، وبأن العالم لا يحترم في النهاية من يزحف تابعاً وراء أسياد فرضوا مصالحهم، ومواقفهم، بالقوة والضغوط، وبأن العالم، وحتى الأعداء، لا يحترم من يبحث عن رضا الأقوياء والطامعين بما هو حقّه، حتى وهو ينزل نيابة عنهم بأبناء جلدته أقسى أنواع الاستبداد، وبمصالح شعبه التنازل بعد الآخر، والأعداء لا يحترمون من يغض النظر عن الإهانات الموجّهة لكرامة وحقوق أمته ودينه ومن يتناسى أسراه، حتى وإن خدمهم طوال حكمه!

والمهم في توصيف مجلة التايمز لبوتين قولها ان «الرئيس بوتين ليس ديمقراطياً بأية طريقة يعرّفها الغرب، وهو ليس أنموذجا لحرية الكلام، ولكنه ركّز على الاستقرار، الاستقرار قبل الحرية، والاستقرار قبل الاختيار، والاستقرار في بلد لم يعرف الاستقرار للمئة عام الماضية». وكأن الغرب كما افتُضح أمره بعد غوانتانامو، وأبو غريب، وحرمانه للفلسطينيين من حريتهم، وإخضاع استقلال وحرية وسيادة شعوب العراق ولبنان والصومال لإرادتهم بقوة الحرب، والاحتلال، والتدخل المكشوف المباشر هو النموذج الأوحد للديمقراطية. هذا كلام مهم جداً، لأن الرئيس بوتين لم يعتبر أن المرجعية السياسية والفكرية والاجتماعية للشعب الروسي تبزغ شمسها في واشنطن، ولم يعتبر أن حركة بلاده يجب أن تكون ممهورة بالموافقات الصادرة من البيت الأبيض التي تطلق على نفسها اسم «العالم المتحضر»، أو«العالم الحرّ»، أو «الأسرة الدولية»، وكلّها تسميات في غالبها تشير إلى ما يقررّه طغاة الشمولية الغربية الجديدة: المحافظون الجدد وحكوماتهم التي لا تتوانى عن تشريع القمع، والتعذيب، والحرب. وفي حالة الشرق الأوسط، فإن هذه التسميات تشير غالباً إلى ما تريده إسرائيل من استمرار احتلالها لفلسطين، وقمعها لحريّة شعبها، ونهبها لأرضهم، ومياههم، بعد أن تأخذ مباركة وتمويل الإدارة الأمريكية.

ان واشنطن ترفض أي بنية ديمقراطية في أي بلد لا تستطيع اختراقها، أو الهيمنة عليه حتى وإن كانت حكومته تستجيب بالشكل الأمثل لمتطلبات الشعب وتنسجم سياساتها مع حضارة البلد وتاريخه. ولكن: من هو بأمس الحاجة لأن يتذكر مقولة بوتين؟ ألسنا نحن العرب؟ وخاصة السياسيين والإعلاميين والمثقفين الذين تحاول مخابرات «الدولة المتحضرة» اختراقهم بالمال والضغوط ؟! إن قول بوتين الذي يجب ان يتذكره الجميع، لأنه عين الحقيقة: «الولايات المتحدة لا تحتاج إلى أصدقاء، ولكنها تحتاج إلى تابعين وتطلق على مجموعة من الهامشيين في مجتمعاتهم اسم المعارضة الديمقراطية». وهذا لا يعني أن نستبدل الاستبداد الأجنبي بنسخته المحلية المدعومة من «الدولة الحرّة»، كما لا يعني أن المعارضة، يجب ألا تكون موجودة، أو أن كلّ معارضة ديمقراطية هي تابعة للمخابرات الأجنبية.

إن تشهد مجلة أمريكية بأن الزعيم الأجنبي، الذي وقف مع استقلالية قرار حكومته عن رأي أم «الديمقراطيات» الغربية وعن «الزعيم الأوحد» لهذه «الديمقراطيات»، هو رجل العام، لهو أمر يرفع من مؤشرات مصداقية محرري المجلة أنفسهم، ولهو درس أيضا للذين يزحفون على بطونهم وراء صداقة أسياد يتلاعبون بأقدار بلدانهم، وبحريّة شعوبهم، وبكرامة دينهم، وبحقوق أمتهم، ويقدمون تنازلاً بعد آخر بعد آخر.

ولكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال التراخي عن العمل الجاد والمخلص والدؤوب المطلوب لتحقيق الديمقراطية بالشكل والطريقة المثلى التي تخدم شعوبنا، وترفع من مستوى معيشتها، وتضمن حقوق مواطنيها، وترفع من مكانة العرب بين الأمم. أي أن النموذج الغربي الدموي التبعي من «الديمقراطية» التي يعملون على نشرها في بلداننا، يجب أن نرفض محاولات فرضه على شعوبنا التي تعاني أساساً من العواقب الوحشية لهذه الديمقراطية، ولكن يجب أن يشكل ذلك حافزاً لنا جميعاً بضرورة العمل من أجل إيجاد الرؤية والبنية والآليات الديمقراطية النابعة من تكوين مجتمعنا، وقيمه، وحاجاته، ومصالحه، وحقوق أفراده.

إن احترام الإنسان وحقوقه، ومشاركة جميع فئات المجتمع في السلطة والثروة تحققّ للعرب ازدهارهم، وتضمن حريتهم، وتجمع كلمتهم على مستوى العالم. إذا كان المواطن الأوروبيّ يسافر اليوم في أربعة وعشرين بلداً من دون وثيقة سفر في مجتمعات يبلغ تعداد سكانها أربعمئة مليون نسمة، لهم تاريخ دموي امتد قروناً طويلة، فما الذي يمنع السياسيين العرب، حكاماً ومعارضين، من العمل لتوفير الحريات بكل تفاصيلها من مغرب الوطن الكبير إلى مشرقه؟ لا يوجد مانع سوى الخوف من التغيير، وقصور الأمر الراهن، والتقوقع داخل كهوف البنى التقليدية. ولكن من يحاول سيكون له شرف تحوّل هذه الأمة إلى كتلة إقليمية اقتصادية وسياسية ذات شأن.

وآنذاك فقط سيتوقف أعداؤنا عن الاستخفاف بكرامة نبينا وديننا، وعن ذبح وخطف وتعذيب أطفالنا وشبابنا في فلسطين والعراق ولبنان والصومال والسودان وتشاد، وسيرتدع الأمريكيون ومرتزقتهم من الشركات «الأمنية» عن إذلال وتعذيب أسرانا في أبو غريب وغوانتانامو، وغيرها من سجون التعذيب «الديمقراطية»، وستتسابق بعض المجلات لتسمية رجالات العام من القادة الذين يضعون شعوبهم وبلدانهم على خارطة الدول ذات الشأن، والذين يبنون ديمقراطية عربية تنسجم مع قيم وتقاليد شعبهم، لا التي يمليها عليهم سفراء بلدان «الدول الحرّة»، ويعيدون العزة والكرامة للمواطن العربي داخل بلده وخارجه.

في النهاية: لا العدوّ ولا المواطن العربي يحترم من لا يحترم حريّة شعبه وكرامته واستقلال أرضه، وسيادة وطنه.. هذه هي الرسالة لعام 2008، فهل نأمل أن تصل الرسالة لمن مكنّه الباري عز وجل في وطنه ومجتمعه؟!