لماذا يُحظر الأمر إذن على رشيدة داتي؟

TT

الكل يتذكر كم بكت الصحافة العربية على أطلال شيراك الديغولي المهووس بالشرق، والمعارض بشدة لحماقات بوش ورعونته. وكم كثرت التكهنات بشأن سياسة ساركوزي أو «بوش الصغير» تجاه العرب، فقد توقع الكل أنه بمجرد أن تطأ قدماه قصر الإليزيه، سيستبعد العرب من الحياة السياسية، ويرحل المهاجرين العرب إلى دولهم، حيث ظل شبح تصريحاته السابقة المستفزة لأبناء المهاجرين إثر الاضطرابات العنيفة في خريف 2005 تطارده طيلة مسيرته الانتخابية. والكل يتذكر كيف تمكن بدهاء «ميكيافلي» من استمالة مشاعر الفرنسيين، حين ركز على قيم الهوية والوطنية ووعد بإنشاء وزارة للهجرة والهوية الوطنية التي تعطي الأولوية لهجرة انتقائية، علما أن الفرنسيين أبانوا دائما عن حرصهم الدائم على نقاء الهوية واللغة الفرنسية، برفضهم مثلا للدستور الأوروبي في استفتاء 2005 والذي تم تعويضه باتفاقية لشبونة الموقعة في 13 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، لتضع حدا لكل الخلافات الأوروبية، لكن بعد مسيرة انتخابية شاقة وطويلة. أقول وبعد هذه المسيرة وبمجرد تسلمه لمفاتيح الإليزيه في 16 مايو (أيار) 2007، عين رشيدة داتي الفرنسية من أب مغربي وأمٍّ جزائرية لمنصب لم يُفصل على مقاس عربي، ولم يكن منصب وزيرة الهجرة أو قدماء المحاربين بل منصب وزيرة العدل، ليخيب ظنون كل المحللين والسياسيين والصحفيين.

خطوة هدأت من روعنا بعض الشيء، وخففت من حدة مخاوفنا من هذا المجري اليهودي، الذي أثبت منذ بداية فترته الرئاسية سياسته الانتقائية تجاه المهاجرين العرب، ففرنسا لم تعد بحاجة لهجرة عشوائية، فقد بنت وشيدت الطرقات ومترو الأنفاق.. على أكتاف المهاجرين من الجيل الأول، وما تحتاجه اليوم كوادر وأدمغة مهاجرة تساهم بقوة في تحديث الاقتصاد الفرنسي وتحقيق الإقلاع الاقتصادي والسياسي والفكري، هذه سياستها وخطتها، لكن ما ليس من حقها هو تصويب سهام العنصرية على فرنسيين من أصول عربية ومسلمة، والاستهانة بحقوقهم كشباب بجنسية فرنسية، وهو شباب يعاني من صراع ولا استقرار داخلي، أوهمته الدولة الفرنسية بأنه فرنسي بحقوق فرنسية، فتنازل عن دينه وتقاليده وربما حتى عن لون شعره، فرحا بهذه البطاقة السحرية التي ستدخله للمجتمع الفرنسي من بابه الواسع، لكن سرعان ما تنبه إلى الوهم الذي يعيشه، فلا هو فرنسي بكامل حقوقه، ولا هو مسلم بكامل تقاليده وعقيدته، بل وجد نفسه في صراع على عدة جبهات، صراع مع حكومة لم تعترف به ولم تسع إلى إدماجه، وصراع مع آباء أميين، يفتقدون للغة الحوار والتواصل، همهم تضييق الخناق على أبنائهم، ظنا منهم أنهم يمارسون دورهم كآباء تقليديين.

ورشيدة داتي التي تملأ الدنيا وتشغل الشارع الفرنسي الآن، نموذج حي لسياسة الانتقاء هذه، وهي أيضا نموذج لسياسة الإدماج التي عجزت عن تحقيقها بعض الأقليات المهاجرة من أصول عربية ومسلمة، تلك التي افتقدت للأسف روح المسؤولية والأمانة واحترام البلد المضيف، واستسلمت للكسل والتواكل والتناسل والاعتماد على التعويضات العائلية؛ ومنها من سلك عالم الإجرام، ومنها من وقع ضحية للتطرف الديني في غياب أيِّ دعم أسري، أو توجيه من علماء الدين، والنتيجة تفجيرات في نيويورك ولندن ومدريد.

ورشيدة داتي التي غدت نجمة سياسية في الصحافة الفرنسية، تلك السمراء الأنيقة، صاحبة الحضور القوي والابتسامة الجميلة، التي أثبتت لفرنسا، انه يمكن للعربي أن يكون مثار فخر عوض أن يكون مثار بلبلة ومشاكل وقلاقل، ونادت بضرورة «التوقف عن اعتبار المواطنين من أصل أجنبي مصدر مشاكل». هذه السياسية التي غدت مادة دسمة للصحافة الفرنسية تتعقب حركاتها وسكناتها وتترصد هفواتها بشكل مقلق ومستفز، بحثا عما يضفي نكهة ولذة على طبقها الإعلامي، وما يؤجج نار سبقها الصحفي، صحافة بدأت تتخصص في صنع النجوم السياسية التي تستقطب الاهتمام أكثر من النجوم الفنية، لحساسية مراكزها ومناصبها. فالنبش في الحياة الخاصة للسياسيين يطرح في الصحافة الفرنسية إشكال الإعلام بين الحرية والحياة الخاصة، وضرورة إحداث توازن بين الشفافية الإعلامية الضرورية والسرية المشروعة للحياة الخاصة. وهذه الخصوصية تضمنتها المادة التاسعة من القانون المدني الفرنسي الذي ينص على أن «كل شخص له الحق في احترام حياته الخاصة»، في حين أن الصحافة الفرنسية تصر على أن الصحافة لا يمكن أن تكون لها جاذبية وإثارة إن لم تستطع الخوض في الحياة الخاصة للسياسيين، والكل يتذكر غضب سيغولين رويال مرشحة الرئاسة في الانتخابات الفرنسية 2007 حين تم التعرض لحياتها الخاصة في الحملة الانتخابية. ودعت إلى ضرورة وضع حدود بين حياتها السياسية وحياتها الخاصة، وعقوبة الطرد التي تعرض لها رئيس التحرير مجلة «باري ماتش» حين نشر صورة سيسيليا وصديقها أيام تولي ساركوزي مسؤولية وزارة الداخلية. الصحافة تطارد الآن رشيدة داتي ليس لأصلها العربي فقط، ولكن للشعبية التي حظيت بها في المجتمع الفرنسي، صحافة لا تكف عن ترديد إشاعات عن علاقتها الحميمة بساركوزي، خاصة بعد طلاقه من سيسيليا، وقد أججتها تلك الوردة الحمراء التي أهداها إياها أمام الملأ في زيارته الأخيرة للجزائر. وأججتها كذلك ما تلاقيه الوزيرة من مكانة وحظوة خاصة لدى الرئيس الفرنسي، خصوصا حين تقاسمت وساركوزي مائدة العشاء التي ترأسها الملك محمد السادس وعائلته بمناسبة زيارة الرئيس الأخيرة إلى المغرب، وكذا مائدة الرئيس الأمريكي جورج بوش، لكن دون تجاهل ما أبانت عنه رشيدة داتي من جدية ومسؤولية وتفانٍ، وهي التي دافعت عن قانون تشديد العقوبة على ذوي السوابق ولم تعلم أن ذلك سيكون من سوء حظ أخيها ذي السابقة، والمتهم في قضية المخدرات، حادثة شكلت نقطة سوداء في حياتها السياسية، وهي التي عملت على إصلاح نظام السجون، وتقدمت بمقترحات مهمة في ظرف وجيز جدا وبقدر كبير من المهنية والكفاءة. وهي التي ألفت كتابها «أجعلكم حكاماً» لوضع حد لكل الاستيهامات البعيدة عن واقعها الحقيقي، كما ذكرت في كتابها هذا، وكي لا تبقى سجينة الأحكام المسبقة والجاهزة التي تملأ الشارع الفرنسي، ولكي تتمكن من المضي قدما ولكي تصرح بالحقيقة قبل أن يكذب الآخرون، تضيف رشيدة داتي إشارة إلى ما نشرته مجلة «الإكسبرس» الفرنسية من وجود غشّ في السيرة الذاتية التي تقدمت بها وزيرة العدل رشيدة داتي لدخول معهد تخريج القضاة، تصريحات تشكك في أهليتها وتجعل من حياتها السياسية والمهنية مجرد كذبة لا غير، وهو أمر نفته الوزيرة بشدة وبحدة في كتابها السابق الذكر.

رشيدة داتي، ليست فقط صاحبة الابتسامة المثيرة، والكعب العالي والفستان الأحمر المصمم من «كريستيان ديور» والذي أثار انتقادات الصحافة الفرنسية أو ربما غيظها، وكأن السياسة تتعارض والأناقة، وكأن أصلها العربي يسلبها هذا الحق. والمثير للاستغراب أن هذه الانتقادات تصدر من مجتمع معروف بأناقته وذوقه الراقي. فرشيدة داتي ليست فقط تلك المرأة الأنيقة، بل هي أمثولة حية للتحدي وإثبات الذات واحترام القوانين والانخراط في المجتمع المضيف بإصرار وبمسؤولية دون الشعور بأي تقزيم أو مركب نقص تجاه الآخر، هي بالإضافة إلى شباب مغاربيين وعرب آخرين، كالفلكية المغربية مريم شديد، واللاعب الجزائري زين الدين زيدان، والفنان جمال دبوز، وفوضيل..، ممن عملوا على جعل أصوات العنصرية تخفت وتتبدد أمام تشجيع وحب الفرنسيين لهم. مهاجرون من المغرب العربي وآسيا وافريقيا السوداء يسعون لتشكيل لوبيات قوية في فرنسا. ويعد نادي «القرن العشرينش أحد أشهر المنتديات التي عملت على إعادة الاعتبار لهذا التنوع الفرنسي، مركزة على الطابع الانتقائي للانضمام إليها. ومن بين مؤسسيه وزيرة العدل رشيدة داتي، والوزيرة المنتدبة للشؤون الخارجية راما يادي اصغر الوزراء سنا في الحكومة، وهي ابنة دبلوماسي سنغالي.

رشيدة داتي إذن لم تعد فقط مثارَ إعجابٍ واهتمامٍ من الشارع الفرنسي، بل مثار خوف أيضا من اقترانها رسميا بساركوزي كما يتداول في الصحافة، وإن حصل ذلك فعلا، ستكسر مقولة نقاء الدم الفرنسي الذي يشترطه الفرنسيون لاعتلاء مثل هذه المناصب الحساسة، لكن إذا كان ساركوزي قد أثبت للعالم بتحديه وعصاميته ودهائه ومكره السياسي أنه من الممكن أن تكون رئيسا لفرنسا بدماء غير فرنسية. فلماذا يحظر الأمر إذن على فرنسية بدماء عربية؟

* كاتبة من المغرب