ما يعرفه الرئيس ساركوزي.. ولا نعرفه نحن!

TT

أحسب أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بات يعرف الكثير عن تعقيدات أزمة الشرق الأوسط ومتفرعاتها. فهو رجل ذو خلفيات لها صلات بمنطقتنا، في الشق الديني على الأقل، تدفع المتابع منا إلى الاعتقاد بأنه مهتم بها وبمشاكلها.

ثم إن للرئيس الديناميكي الشاب مجموعة من المستشارين الموثوقين لديهم أيضاً، وإن من زوايا متعددة، اهتمام كبير بما يجري عندنا، وبالأخص في لبنان، الذي كان له موقع متميز في حسابات الرعاية الفرنسية الخاصة في منطقة الشرق الأدنى منذ منتصف القرن التاسع عشر ـ عبر القناصل والكنيسة والحليف الإقليمي المصري ـ وحتى الاستقلال عام 1943.

أيضاً ثمة «لوبي».. بل «لوبيات» لبنانية وفرنسية على عدوَتي المتوسط البعيدتين نشطت وتحركت.. وما زالت تنشط وتتحرك وتطمح وتحلم.

ومن خلال «العلاقة الخاصة» التاريخية بين فرنسا ومفهوم «لبنان المستقل» كان لساسة فرنسا، سواءً أولئك الذين تدغدغهم أحلام الامبراطورية أو الذين تحرّكهم نوازع كاثوليكية رعائية ـ حمائية نظرة معينة إزاء مصدر الخطر على هذه العلاقة الخاصة. وكان العمق السوري العربي هو ذلك «البعبع». ذلك الخطر الدائم الذي عبّر عنه بتهذيب وببلاغة في آن معاً اثنان من كبار رجال الدين المسيحي اللبنانيين في مؤتمر باريس المنعقد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وهذه النقطة بالذات ظلت نقطة إشكالية في علاقة التقدميين والعروبيين اللبنانيين مع التيار الذي عرف طويلاً بتيار «المارونية السياسية» الانعزالي إزاء الهوية العربية وهموم العرب وقضاياهم، ولا سيما بعد نكبة فلسطين عام 1948.

أضف إلى ذلك أن هذه النقطة كانت إشكالية أيضاً في النظر إلى فرنسا إبان حقبة الحرب الباردة. فحرب الجزائر و«العدوان الثلاثي» (حرب السويس) على مصر رسّخا في الضمير العربي صورة سلبية جداً للحضارة الفرنسية المتنّورة التي علّمت العالم كله ثقافة الثورة.. قبل أن تأكل الثورة أبناءها في «عهد الإرهاب».

كل هذه الخلفية التاريخية، تشكل في رأيي مدخلاً للتساؤل.. على طريق محاولة فهم ما تريده باريس اليوم في دبلوماسيتها العبثية إزاء سورية ولبنان.

أنا أعتقد، أن ثمة معطيات يفترض أن تكون واضحة في ثوابت الدبلوماسية الفرنسية تجاه البلدين الشقيقين، أهمها ما يلي:

أن لبنان دولة مستقلة ذات سيادة.

أنه من حق اللبنانيين وحدهم أن يقرّروا شكل نظامهم السياسي، وبالتالي أن يختاروا قياداتهم بصورة ديمقراطية منصفة.

أن لكل كيان في العالم، ومنها بالطبع لبنان، أبعاداً إضافية دينية وطائفية/ مذهبية وإثنية ولغوية تكمل هويته وتسهم في رسم مصالحه الاستراتيجية.

انطلاقاً من المعطى الثالث، لا شك، في انتماء لبنان العربي وتفاعله مع محيطه العربي وفضائه الإسلامي، وهذه حقيقة تحكم على ما يبدو جزءاً لا بأس به من توجهّات الدبلوماسية الفرنسية. غير أن المعضلة الصارخة تتجسد في انتهاك المعطيين الأول والثاني اللذين يبدو أن باريس لا توليهما الأهمية المستحقة.

أن المنطق الذي ورد على لسان نائب الرئيس السوري فاروق الشرع، ثم أكّده بقوة وزير الخارجية وليد المعلم، خلال الأسبوعين الأخيرين.. واضح وساطع سطوع الشمس. وإذا شطبنا من الكلام المكرّر عبارات يكذبها كل يوم الإعلام السوري الرسمي مثل «سورية مع كل ما يتوافق عليه اللبنانيون» و«سورية على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين» و«سورية لا تتدخل في الشأن اللبناني الداخلي»، يستوقفنا الموقفان التاليان:

ترفض دمشق واقعياً الاعتراف بأن لبنان دولة مستقلة. وكلام الشرع ثم التفاصيل التي أوردها المعلم حول مطالب دمشق بالنسبة لشروط التوافق الداخلي وتشكيل «حكومة الوحدة الوطنية»، ومن ثم الدخول في تفاصيل حصص القوى السياسية فيها، حقائق تؤكد أن لبنان بالنسبة إليها مجرّد «حديقة خلفية» ممنوع بتاتاً أن تنفصل عن مصالحها. والمستغرب ـ إذا كان كلام المعلم صحيحاً ـ موافقة فرنسا على الدخول في مفاوضات تفصيلية بهذا الشأن، لأن هذا يشكل تواطؤاً ضد استقلال لبنان، وضد مفهوم كونه دولة تتمتع بالعضوية الكاملة في الأمم المتحدة، ويمهّد لجعله «كوندومينيوم» أو حكم وصاية ثنائيا على غرار الحكم المصري ـ البريطاني للسودان.

في موضوع النظام السياسي اللبناني، ثمة التباس متعمّد غريب جداً. وأرجّح أن الذين يدعون في لبنان إلى الديمقراطية التوافقية لا يعنونها، لأنهم يعتبرون أنهم الرابحون على المدى البعيد من الأغلبية العددية (والتفوق التسليحي والمالي)، والذين يقولون إنهم مع الديمقراطية التمثيلية يشعرون في قرارة أنفسهم أن مصلحتهم البعيدة المدى في عكس ذلك تماماً. فلبنان التعددي الذي يتغيّر تركيبه الديمغرافي يومياً تقريباً بحاجة إلى حلٍّ جذري لضبط آلية حكمه، وقد مهّد «اتفاق الطائف» لهذا الحل بإشارته إلى بندَي «اللا مركزية الإدارية الموسعة» و«مجلس الشيوخ». والمؤكد أن هذين البندين مرفوضان عند دمشق، وأيضاً عند حلفائها وأتباعها القدامى والجدد، والسبب منطقي جداً.. لأن القبول بهما يمكن أن يشكل إنقاذاً للدولة اللبنانية المستقلة.. فكيف يجوز السماح بإنقاذ صيغة هي أصلاً مرفوضة؟

هنا أعود إلى تفكير الدبلوماسية الفرنسية، لأتساءل عن خلفيات تحركها، والحد الأدنى الذي يمكن أن تقبل به للبلد الذي كان يعتبرها بعض أبنائه أمهم الحنون. وأتساءل بتحديد أكبر عن أربع تأثيرات كلها حتى الآن سلبية النهج والهدف والنتيجة، هي: تأثير «اللوبي العوني» داخل وزارة الخارجية والبرلمان في باريس، وتأثير بعض الدول العربية المضللة (بفتح اللام) المراهنة حتى الساعة على «اعتدال ما» في الموقف السوري، وتأثير «اللوبي الإسرائيلي» الحريص على منع التغيير في دمشق، وتأثير التيارات «الوطنية» و«الاستقلالية» و«الأوروبية» الفرنسية المشكّكة على الدوام في موقف جورج بوش.