الوضع الصحافي في مصر!

TT

بين وقت وآخر تقع حادثة تبين مدى الإشكال الذي تعاني منه الصحافة المصرية بما في ذلك محطات الاذاعة والبث التلفزيوني، فحادثة جريدة «النبأ» التي نشرت موضوعا فاضحا عن راهب سابق في دير المحرق الشهير بصعيد مصر ما زالت محل أخذ ورد وكان الاتجاه الغالب هو مزيد من القيود على الصحافة حتى يمكن منع وقوع مثل هذه الحادثة مستقبلا.

وموضوع الصحافة في مصر معقد، فمن الصعب أن تصدر جماعة من الناس صحيفة أو مجلة. وقد حاول الكاتب الراحل الدكتور شكري محمد عياد إصدار مجلة ثقافة باسم «النداء»، ونفذ كل الشروط التي يتطلبها القانون ولكنه مع ذلك لم يظفر بالترخيص الى يوم وفاته. ومع ذلك فالساحة المصرية تشهد ظهور مجلات وصحف جديدة ولا يعرف أحد كيف تظهر هذه الصحف ولا الأسس القانونية التي صدرت بموجبها، وقد تبين أن جريدة «النبأ» التي أثارت الضجة الأخيرة تملك مبنى كبيرا ومطبعة فضلا عن سبعين سيارة نقل لتوزيع الجريدة، وقدر بعض الكتاب ان رأسمالها يزيد على الخمسة والعشرين مليون جنيه، وعلى الرغم من كل ما كتب عن هذه الجريدة فإن أحدا لم يذكر كيف تأتى هذا المال لذلك الصحافي الذي لم يعرف عنه من قبل انه يملك شيئا من المال يسمح بتكوين مؤسسته الصحافية. وذكر أيضا أنه كان مقربا من الجهات الرسمية، اذ كان يُدعى في المناسبات المختلفة، وقيل انه كان يباهي بعلاقاته الرسمية القوية، ولعله لذلك اعتقدت قيادات المسيحيين أن النشر ليس عملا فرديا، وليس مجرد اثارة صحافية بغرض الترويج انما وراءه جهة ما أو سلطة ما تريد ايذاء مشاعر الأقباط، وربما أكثر من ذلك اثارة الفتنة الطائفية في المجتمع المصري، وبصرف النظر عن كل الاحتمالات، الضعيف منها والقوي، فإن موضوع صحيفة «النبأ» يطرح اشكالية الصحافة في مصر، فالواقع أن جريدة «النبأ» ليست الوحيدة التي تصدر في هذا الجو المليء بالصخب الصحافي فهناك العديد من الصحف الشبيهة والتي يصعب التعرف على الطرق التي استطاعت الصدور على أساسها، وقد أشير الى موضوع التمويل، وقيل ان هناك بعض الدول وراء هذا التمويل أو بعض كبار الممولين أصحاب المصالح الخاصة. وبعض هؤلاء الممولين صرح بأنه ينوي اصدار صحيفة، وهو ممول يعاني من مشاكل اقتصادية عديدة ويتعرض لمراجعات حول موقفه المالي أو عضويته في مجلس الشعب.

والحق أن الكثيرين من المستثمرين في القطاع الخاص لم يأتوا من المدخرات الهائلة التي يملكها المصريون في الخارج، بل كانوا صناعة حكومية منذ بداية الانفتاح الاقتصادي في بداية حكم السادات حيث منحت السلطة لمن لهم علاقة بها ترخيصات للاستيراد بلغت وما زالت ـ حد الاحتكار ـ وأدت الى تكوين ثروات ضخمة فضلا عن ان غالبية تمويل المشروعات الاستثمارية جاء من قروض البنوك المملوكة للدولة والتي يتكون رأسمالها من ايداعات المواطنين، وهناك من ينقد هذا النوع من التراكم الرأسمالي الذي بني على أساس الواسطة أكثر مما بني على الأسس الاقتصادية الصحيحة، وكان من الطبيعي أن يثار بين وقت وآخر وقائع عن خسارات هائلة أو هرب هؤلاء الممولين وهم مدينون بمليارات من الجنيهات، ذلك ان طابع المغامرة المستهترة كان وراء الاضطرابات المختلفة لسهولة الاقتراض ولانعدام الجدية والرقابة، وانعدام المخاطرة تقريبا لأن المال الذي يخاطر به المخاطرون ليس مالهم وليس من جهدهم الخاص، وليس من المستغرب اذن ان تكون الصحف الكثيرة التي صدرت في العقد الأخير أو السنوات الخمس الماضية محل استرابة الكثير من الصحافيين الذين اذهلتهم حادثة جريدة «النبأ».

واذا قارنا ما حدث من اخفاق لمحاولات كاتب مثل المرحوم شكري محمد عياد، على ما له من احترام في الحركة الثقافية في مصر والعالم العربي، وما يحدث كل يوم من ظهور صحف يرأس تحريرها أشخاص لا يعرفهم أحد في الوسط الصحافي أو الثقافي، لرأينا ان موضوع النشر في مصر يحتاج الى مراجعة شاملة. والواقع ان الاعلام المصري كله في حاجة الى مراجعة. حقا انك لن تستطيع الحديث عن اعلام حر ومستقل وموضوعي في ظل ديمقراطية منقوصة، ولكن هناك حديثاً متواصلاً عن الحريات التي يتمتع بها الاعلام في مصر، وربما كان هذا صحيحا الى حد ما، الا ان الكثير من النقد المنشور في الصحف ـ بما في ذلك الصحف المملوكة للدولة ـ لا يعقبه أي تحقيق من جهات قضائية أو برلمانية كما يحدث في البلاد الديمقراطية، ولذلك صار من الممكن ان تثار موضوعات بالغة الأهمية لكنها لا تحدث أثرا في الواقع العملي، إلا اشعار الرأي العام المصري بمزيد من اليأس والقنوط والضياع، وربما كانت السلطة تعتقد أن النقد الذي تنشره الصحف بمثابة تنفيس عن رغبات مكبوتة لدى الصحافي أو لدى الشعب يساعد في اعادة التوازن النفسي للناس، ولكن الحقيقة غير ذلك لأن الرأي العام يكتشف سريعا أن هذا النشر ليس الا عملية للتنفيس وان الأوضاع المسكوت عنها سوف تظل على حالها من دون ان تمسها يد التحقيق أو يد الاصلاح.

والغريب ان هذه الرؤية المغلوطة امتدت الى مجلس الشعب، فقد بدأ المجلس يناقش الكثير من القضايا الجادة، ولكن هذه المناقشات لا تلبث أن تنتهي دون متابعة، سواء من المجلس ولجانه أو من السلطات التنفيذية، وغالبا ان اسلوب «دعه ينفس عن نفسه» تجاوز الصحف ومناقشات البرلمان الى أحكام القضاء اذ تراكمت أحكام قضائية لم تنفذها السلطة حتى صار عدم تنفيذ الأحكام من المشكلات الغريبة والمستمرة في المجتمع المصري.

ويبدو ان السلطة التنفيذية تحرص على أن يكون بيدها كل الخيوط، وفي قضية جريدة «النبأ» لم تستعمل قانون الطوارئ في المصادرة والغاء الترخيص ولجأت الى القضاء، ولكن الجميع يعلم ان سلطة الالغاء ما زالت بأيدي السلطة وانها لم تستعملها ترخصا وحبا في الديمقراطية. وكذلك الأمر بالنسبة للاعلام، فوزير الاعلام أعلن في مناسبة افتتاح موقع للبث التلفزيوني الجديد ان اعلام مصر ليس للبيع. وقد لاقى هذا التصريح تصفيقا من الصحافيين الحاضرين الاحتفال، وكأن أحدا لم يشك من احتكار الدولة للاعلام ومن سياسة اعلامية تدافع عن السلطة وتبرر سلوكياتها، ومع أن الحديث عن تبعية الاعلام للدولة وخطأ وجود وزارة للاعلام باعتبار ذلك من علامات الدولة الديكتاتورية الشمولية لم يتوقف، الا أن «تأميم» الاعلام أصبح متساويا مع تأميم المشروعات الاقتصادية أو الخدمية، وكأنه في خدمة الشعب وليس احتكارا وهيمنة على المعلومات. وبالفعل أصبح هذا الاعلام الاحتكاري محل شكوى من جانب الاعلاميين ومن جانب الجمهور المتلقي الذي لم يعد أحد يعبأ به وبحاجاته الحقيقية. وانتشرت هذه الشكوى في أكثر من موقع عربي، حتى ان بعض الدول العربية مثل الأردن صارت تتحدث عن تحرير الاعلام والغاء الوزارة المسؤولة عنه.

والاعلام من أهم المؤسسات الاجتماعية، فعن طريق السياسات الموجهة يصبح من الممكن تكوين وعي زائف، ولكن هذا يؤدي في النهاية الى تصدع البناء الاجتماعي كله، ومع مرور الوقت وتراكم العبث بعقول الناس ينتهي الوضع الى تدهور كامل. ولكن الاعلاميين والجمهور بطبيعة الحال، خاصة في مصر، يعلم ان تخصيص الاعلام يضعه في أيدي ديناصورات القطاع الخاص الذين يتكونون في ظروف غير طبيعية وعلى أسس ليست بعيدة عن الشبهات. وربما كان تصفيق الاعلاميين في الاحتفال المشار اليه سابقا راجعا الى تخوفهم من أن يقع الاعلام في ايدي هذه الديناصورات، ذلك ان أحدا لم يطرح بعد اسلوب التخلص من الاعلام الشمولي الخاصع لسلطة الدولة، بل ان الموضوع لم يطرح للمناقشة بعد على الرغم من خطورته القصوى والتأثيرات الضارة على الحياة السياسية الثقافية في المجتمع المصري.

وكل العالم الغربي الديمقراطي، دون استثناءات تقريبا، لا يعرف وزارة للاعلام، ولكننا ـ وبسبب ظروف مغايرة ـ علينا ان نكتشف الطريقة السليمة لتحرير الاعلام من سلطة الدولة احادية الجانب، فمحطتا البث التلفزيوني الأساسية في بريطانيا الـB.B.C1 والـ B.B.C.2 فضلا عن الاذعة البريطانية وفروعها المختلفة تديرها مؤسسة مستقلة عن الدولة، ومستقلة بطبيعة الحال عن هيمنة رأس المال، وما زالت هذه المؤسسة تعتمد على رسوم ترخيص المشاهدة والاستماع الذي تحصله من الجمهور، وربما بشيء آخر من المساعدة الحكومية، كما أن مجلس الادارة يتم اختياره تحت مراجعة ومراقبة المؤسسة البرلمانية والصحافية ذاتها والى جانب ذلك ـ وربما فوق ذلك ـ رعاية التقاليد الديمقراطية التي صارت راسخة الى حد كبير والوعي النشيط للجمهور المتلقي والمؤسسات المعبرة عنه.

ومنعا لأي اشتباه لا تعتمد المؤسسة على التمويل الاعلاني حتى تبتعد عن أي شبهة للتأثير، بعد ذلك فإن محطات البث التلفزيوني الأخرى تأتي من كل اتجاه سواء من الداخل أو من الخارج.

أما الصحف ـ وقد جرت كثير من الدول الديمقراطية على تمليك الصحف للعاملين فيها مع طرح أسهمها للسوق، بشرط تجنب الاحتكار ـ فليس من حق مساهم أن يمتلك أكثر من عدد محدود من الأسهم حتى لا تكون له سيطرة احتكارية على مسار الصحف. وفي مصر من الممكن ان تطرح الصحف القومية للمساهمة ولتملك العاملين بها. وقد حدث هذا الاجراء في فرنسا، والكثير من الصحف القومية الصادرة في بريطانيا قامت على أساس الشركة المساهمة فضلا عن اسهام العاملين فيها، وهناك ـ ضمن الثقافة السائدة ـ حساسية بالنسبة لهيمنة كبار الرأسماليين على الصحافة. ومع أن العديد من الصحف تحت هيمنة هؤلاء الكبار، مثل الناشر كونراد بلاك المعادي للعرب والمتحيز بشكل صارخ لاسرائىل والذي يملك صحيفتي «الديلي تلجراف» اليومية و«الصانداي تلجراف» الأسبوعية، وهما أكبر الصحف القومية توزيعا، ومثل الناشر ميردوخ الذي يملك جريدة «التايمز» وعددها الاسبوعي «الصانداي تايمز» فضلا عن جريدة «الصن» الشعبية الواسعة الانتشار و«نيوز اوف ذا وورلد» الاسبوعية. الا ان الصحافة البريطانية استطاعت ان تخرج من اطار الوظيفة الدعائية لهذا الرأي أو ذلك أو لتلك المصلحة أو الايديولوجية لتصبح صناعة لنقل المعلومات المحققة وآراء ذوي الخبرة الموضوعية للناس، وبهذا تحد ـ الى حد ما ـ من هيمنة أصحابها، أما بقية الصحف التي حققت الاستقلالية فتبقى كالديدبان الحارس أمام الاغراض المعاكسة لمصالح غالبية الناس.

ان تحرير الصحافة والاعلام بشكل عام من هيمنة السلطة احادية الجانب ليس مستحيلا، وليس من الضروري أن يكون الدليل الوحيد هو انتقال ملكيتها الى الطواغيت الجدد الذين يحومون كالصقور الجارحة في سماوات مصر.