معارك دبلوماسية على مسرح جديد للحرب

TT

ما هو شكل حروب المستقبل؟ سؤال شغل بال العلماء وخبراء المستقبل في الستينات. وكانت الاجابة التي كثيرا ما تكررت هي ان حروب المستقبل ستشنها القوى العظمى على نطاق كوني باستخدام اسلحة غاية في التقدم. وفي السبعينات ادى الوفاق الى خفض احتمالات شن الحروب النووية الحراراية كتصرف سياسي متعمد. ولكن وحتى في ذلك الوقت لم تستبعد امكانية نشوب حرب عن طريق الخطأ. كان المنظّر الرئيسي لمفهوم الحرب الكونية هو روبرت مكنمارا الذي خدم كوزير للدفاع في الولايات المتحدة لمدة سبع سنوات، وهو رقم قياسي. ولمنع مبارزة نووية كونية طور نظرية «التدمير المشترك المضمون» والمعروفة في اللغة الانجليزية بالحروف الاولى من الكلمات الثلاث MAD التي تعني بالانجليزية المجنون. وتعني نظرية MAD ان اي قوى تشن هجوما نوويا ستضمن تدميرها نتيجة لرد الفعل الانتقامي للدولة المعتدى عليها.

الا ان احداث العشرين سنة الماضية التي اعقبت ظهور نظرية MAD كشفت ان مفهوم الحرب الكونية كان خطأ منذ البداية. وبعيدا عن الاستعداد لحروب المستقبل فإن المفهوم اجاب عن سؤال تبلور في نهاية الحرب العالمية الثانية. فلو كانت نظرية MAD موجودة في عام 1939 لكان من شبه المؤكد عدم اتخاذ هتلر للخطوات التي اتخذها وأدت الى حرب عالمية دامت خمس سنوات.

لقد فشل الجنرالات والاستراتيجيون العسكريون في التكهن بطبيعة وشكل الحرب المستقبلية.

ففي الثلاثينات طورت القيادة الفرنسية العليا نظرية خط ماجينو التي حلت المشاكل التي واجهتها فرنسا في 1870. وفي عام 1967 كانت الدول العربية المحيطة بإسرائيل تستعد للدخول في حرب على غرار حرب 1948.

وفي السبعينات فشل الاميركيون في تحقيق الانتصار في حرب فيتنام لانهم كانوا يحاربون بالطريقة التي استخدموها ضد اليابنيين في الاربعينات. واظهرت التسعينات انه حتى منظمة حلف شمال الاطلنطي (الناتو) لم تكن قادرة على الاعداد لحروب حقيقية التي تعرضت لها القارة الاوروبية، لان الناتو طوال الخمسين سنة السابقة كان مستعدا للدخول في حروب نووية.

وفي عام 1990 اضطرت القوى الرئيسية في الناتو الى خوض حرب تقليدية في الخليج لتحرير الكويت. وكان الجيش العراقي قد استعد لتكرار حرب الثمانينات ضد ايران. فقد تمترس على الارض وجمع كميات كبيرة من المدرعات في الوقت الذي احتفظ فيه بأسلحته الكيميائية كورقة اخيرة. وفي خلال ايام انهارت استراتيجيته بأكملها بالاضافة الى القوات الجوية.

وفي منتصف التسعينات وجد الناتو نفسه يطارد مجرمي الحرب في البوصنة ويجرد رجال المقاومة في مقدونيا من اسلحتهم، واصطحاب الاطفال الى مدارسهم في كوسوفو.

لقد لاحظ سان تزو الذي ربما يعتبر اول استراتيجي في العالم، طبيعة الحرب المتغيرة قبل اكثر من 2000 سنة. فقد اشار الى ان هؤلاء الذين يستثمرون كثيرا في الاستعداد لأي شكل من اشكال الحرب سيهزمون عندما يواجهون حربا من نوع آخر.

اما خليفته الالماني كلاوسفيتس فقد اشار الى ان هؤلاء الذين يستعدون لحرب يعتقدون انهم يعرفونها جيدا قد خسروها بالفعل.

السؤال الاساسي هو المرونة.

فمع التغير التكنولوجي السريع، الذي صحبته تغيرات سريعة في المجالات الاقتصادية والسياسية، يمكن اعتبار الاعتماد على تحليل احادي للتهديدات العسكرية مكلفا اذا لم يكن انتحاريا لأي امة تقريبا.

لقد اظهر التاريخ ان معظم الامم تخلفت في التكيف مع الاشكال الجديدة للحرب. لقد كان الفرس اقوياء عندما كانوا يحاربون حروبا برية، وأسسوا اول امبراطورية كبرى في العالم. ولكن الامر استغرق قرنين تقريبا والعديد من الهزائم، لكي يفهوا ان الحرب يمكن شنها في البحر ايضا. واعترضت النخبة السياسية البريطانية على تشكيل قوة جوية طوال العشرينات، مما جعلهم يدفعون ثمنا غاليا في «معركة بريطانيا» في الاربعينات. وبالرغم من ذلك اعتقد الاستراتيجيون ان «القاذفات ستصل الى اي مكان» وتجاهلوا تطوير الرادار بإعتباره بدعة تكنولوجية. وبدأت فرنسا في تطوير وحدات مدرعة، وانواع جديدة من الدبابات، بعد الحرب العالمية الثانية فقط.

وقد كررت العديد من الدول النامية اخطاء القوى الصناعية، وإن كان بطريقتهم.

فبين عامي 1975 و1995 كانت اندونيسيا اكبر مستورد للأسلحة في العالم الثالث. ولكن المعدات المتقدمة التي اشترتها اثبتت عدم فاعليتها في تيمور الشرقية وأشيه او ضد المتمردين في العاصمة جاكرتا.

وفي العقد الاخير استثمرت ايران استثمارات ضخمة في صناعة الصواريخ من جميع الانواع. ولكن الهوس الايراني بالصواريخ ربما يثبت انه جهد بلا طائل بعد تطوير الاسلحة الصاروخية المضادة ونشرها في المنطقة في السنوات القليلة القادمة.

وهو الامر الذي يذّكرنا بـ«الدرع المضاد للصواريخ» الذي اقترحه الرئيس الاميركي جورج بوش. ومن المقرر ان يتصدر هذا الموضوع جدول اعمال قمة دول مجموعة الثماني الذي سيعقد في جنوة في ايطاليا في الشهر القادم.

وجهة نظر بوش في غاية البساطة: الامم كانت دائما على استعداد للدفاع عن نفسها في مسرح جديد للحرب. فقد تم تطوير القوات البرية عندما كان التهديد يأتي من قوات المشاة. وتم تشكيل قوات الفرسان عندما ظهر نوع جديد من الحرب. وعندما انتقلت الحرب الى البحار تم تطوير الاساطيل. وتم تشكيل القوات الجوية للتعامل مع الحرب في الجو. ولذا فإذا تعرضت دولة ما لهجوم من الارض والبحر والجو فلا بد ان تكون لديها وسيلة للدفاع عن نفسها. ولكن ماذا عن الصواريخ البالستية عبر الفضاء؟ لا يوجد دفاع ضد ذلك.

البيت الابيض يشير الى انه من الناحية النظرية يمكن لأي شخص اطلاق صاروخ ضد اي هدف، وهو متأكد من ان سلاحه لن يتم اعتراضه.

عدد الدول التي يمكنها ذلك في الوقت الراهن محدود. وليس من المرجح رغبة اي منها في القيام بمثل هذا التصرف والمخاطرة بهجوم انتقامي اكبر ضدهم. ولكن ماذا عن «الدول الضالة» والارهابيين واليائسين، الذين لا تحكمهم اية قواعد؟

ان اول من اثار امكانية انشاء درع مضاد للصواريخ كان الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف في عام 1956. فقد اراد شيئا يشبه المدافع المضادة للطائرات لضرب وتدمير الصواريخ قبل ان تصل الى اهدافها داخل الاتحاد السوفياتي. وتخلى عن الفكرة عندما ابلغه العلماء ان تدمير صاروخ برأس نووية فوق موسكو على سبيل المثال، ليس فكرة جيدة لأن الحطام النووي المتساقط يمكن ان يقتل مئات الالوف من الناس.

ثم اثار الرئيس الاميركي السابق رونالد ريغان الفكرة في عام 1981 بعد اجتماع في وزارة الدفاع. فقد ابلغوه انه لدى الولايات المتحدة شبكة تراقب كل عمليات اطلاق الصواريخ تقريبا من اي مكان في العالم. وسأل ريغان: ولكن ماذا يمكنكم القيام به بخصوص هذا الامر في ما عدا مراقبته؟ وكانت الاجابة: لا شيء.

وتذكر ريغان عندئذ ان احد الافلام التي مثلها منذ فترة طويلة تحكي قصة جهاز يصيب الصواريخ في الفضاء. وظهرت فكرة درع صاروخي، اطلق عليه «حرب النجوم».

ومما لا شك فيه ان جميع الدول بلا دفاع ضد الهجمات الصاروخية. السؤال هو عما اذا كانت شبكة الدفاع الصاروخي يجب ان تكون اميركية فقط. نقاد الموقف الاميركي يشيرون الى انه اذا سبقت واشنطن الدول الاخرى في هذا المجال، فيمكنها ان تتصرف بطريقة اكثر تعاليا في الشؤون العالمية، لثقتها بأنها محصنة في جميع مسارح الحرب. وبمعنى آخر فإن وجهة النظر تلك تعني انه من الضروري بالنسبة للولايات المتحدة ان تبقى غير محصنة على الاقل في نوع من انواع الحرب لكيلا تملي ارادتها على باقي انحاء العالم. وليس من المرجح ان تقنع وجهة النظر تلك الاميركيين الذين يفهمون انه في الوقت الذي لا يمكن فيه تعرض بلادهم لغزو بري او بحري او حتى جوي، فإنها بلاد دفاعات ضد هجمات صاروخية.

ولكن هل الولايات المتحدة تستعد لشكل من اشكال الحرب اصبح قديما مع ظهور الاسلحة الجديدة؟

من السابق لأوانه معرفة الاجابة عن هذا السؤال. ولكن الاهتمام يتركز على مسرح جديد للحرب اشد تدميرا وهو الفضاء الخارجي.

فقد كشفت دراسة ظهرت مؤخرا ان حرب الفضاء المعلوماتي، يمكن ان تؤدي الى اضرار مادية وبشرية اكبر من اي من اشكال الحرب التقليدية في نفس الفترة الزمنية. فخلال العقد الماضي تقريبا وقعت مئات من المناوشات في الفضاء المعلوماتي، وكشفت عن ضعف الاقتصاديات الحديثة. والذي شاهدناه حتى الآن، ربما يصبح مثل لعب الاطفال بالمقارنة بالامكانيات القاتلة لحرب شاملة في الفضاء المعلوماتي.

وفي الوقت نفسه تستمر الدول النامية في شراء اسلحة الامس وتستعد لحروب اول من امس.