كرنفال ألوان

TT

في الثامن والعشرين من يونيو (حزيران) عام 1916 أذاعت لندن بيان الثورة العربية الكبرى ضد الأتراك متأخراً يومين عن موعد صدوره الأصلي، وما ذاك التأخير بسبب المواصلات انما لتعطي حكومة صاحب الجلالة جورج الفرصة لنفسها لتدارس العواقب، فقد كانت تحت الرماد نيران كثيرة، وخلافات فرنسية ـ انجليزية على الغنيمة العربية وطريقة اقتسامها، وكانت روسيا رغم مشاكلها ـ آنذاك ودائما ـ قد دخلت على الخط، وكالعادة من الباب الفرنسي.

وفي اليوم ذاته لإذاعة البيان العربي في وسائل الاعلام الانجليزية عثر المؤرخون في وثائق الخارجية الروسية على برقية من السفير الروسي في باريس ايزوفولسكي الى وزير خارجية بلاده يقول فيها: «علمت ان مسيو بريان وحكومته غير راضين تمام الرضا عن المفاوضات السرية التي يقوم بها الانجليز مع العرب لأن الانجليز انصرفوا الى خدمة انفسهم دون حلفائهم في هذه القضية».

وغيظ الحليف الفرنسي واضح فقد بدت في الأفق بوادر تراجع عن اتفاق مارك سايكس، وجورج بيكو اللذين قسما الخريطة العربية الى كرنفال ألوان بحيث تكون المنطقة الزرقاء «سورية» للفرنسيين والمنطقة الحمراء «العراق» لبريطانيا، وتظل المنطقة السمراء «فلسطين» رهن التشاور مع روسيا.

وفي تلك الاثناء هاج الايطاليون وطالبوا بحصتهم فلونوا لهم قطعة في شمال افريقيا وأخرى في القرن الافريقي بحيث يكون ما يعطى للطليان من الغنيمة العربية يساوي تماما حجم الأراضي التي ستعطى لبريطانيا وفرنسا. ووفى الحلفاء بالوعد فالصحراء الليبية لمن يقيسها تزيد نظريا عن حصة الموقعين الاساسيين على معاهدة الاقتسام.

ومع وضوح التآمر البريطاني والفرنسي على القضية العربية منذ ذلك التاريخ ظل في أوساط الانتلجنسيا العربية مخلصون للنهج اللورانسي يزعمون وجود دائرتين في الخارجية البريطانية لا تدري احداهما بما تفعله الأخرى، فقد قامت واحدة بالتصديق على معاهدة الاقتسام ووافقت الدائرة الثانية على استقلال العرب.

ومن يقرأ أدبيات تلك المرحلة التي كنا فيها ألوانا على الخرائط يجد صدى تلك النقاشات البيزنطية في المجلات الاساسية، فبعد سنوات سنجد الدكتور عبد الرحمن الشهبندر السوري يعلق في المقتطف المصرية (يونيو/حزيران 1931) على نظرية الدائرتين اللتين لا تنسيق بينهما في الخارجية البريطانية لينفيه، ويضيف أن ذلك لا يجوز في الصين أيام نكبتها فكيف بدولة عرفت أعرق أشكال التنظيم في سياستها الخارجية.

وكي يداوي العرب خديعتهم بحلفائهم ولورانسهم يزعمون ان فارسهم الشهم لورانس رفض ان يحصل على المنح والألقاب والرتب والأوسمة تقديرا لما فعله في البلاد العربية لحنقه على دولته التي خدعت العرب، وهذا كلام المواسي لا يصمد أمام المحاكمات الوثائقية، فلورانس كان عنده مع رؤسائه مشكلة أخرى تتعلق بشذوذه، وليس بنصرته للقضايا العربية، ومع ذلك يظل السؤال مشروعا عن حجم ما كان يعرفه عسكري في الميدان عن خطط الدولة التي يقاتل تحت لوائها.

والنظرية المريحة عربياً ان لورانس لم يعرف بمعاهدة تقسيم جثة الضحية الى اشلاء الا بعد ان عاد من ميادين القتال، وانه تكفيرا عن مشاركته عن غير قصد بالخديعة قدم لفيصل الأول جميع ما عرفه من اسرار وزارة الخارجية بعد عودته الى لندن.

والمشكلة ليست في لورانس وغيره لكنها فينا بالدرجة الأولى، فمن يدمن التخلف والتبعية يسمح لغيره ان يلغي انسانيته وحقوقه وحدود بلاده وأحلام أمته وان يحيله الى لون على خارطة فوق جدار، ومن يدري فقد تكون الخارجية الاميركية أو وكالة استخباراتها تعطينا على غرار ما حصل في اوائل القرن الماضي ألواناً أخرى على خرائطها السرية.

ان التخلف ليس ارثاً لا يمكن الفكاك منه، والتبعية ليست قدراً محتماً للمنطقة كما يحاول البعض ان يوحي لنا بذلك، ومن يرفض ان يكون تابعاً ويحارب في سبيل استقلال قراره السياسي لا يستطيع الآخرون ان يحددوا له مصيره على هواهم ولا ان يحيلوا بلاده ويختزلوها الى مجرد لون على خارطة.