الرحلة صفر

TT

تتخذ المآسي والمآزق العربية على الدوام طابعاً ساخراً على قاعدة «شر البلية ما يضحك». وفي العالم العربي وحده يمكن ان يقع حادث من نوع وحجم «شحن» ابراهيم غوشة الى مطار عمان من دون اشعار مسبق، او من دون المطالبة باشعار بالوصول. فعندما استقبلت قطر اركان «حماس» كانت تعرف جميع حيثيات قرار الابعاد. وكانت علاقتها بالاردن ممتازة. وكانت الدوحة في مرحلة من المراحل، ترى في الاردن واليمن اقرب الاصدقاء والحلفاء. فهما وحدهما كانا يؤانسان وحدتها وهما فقط كانا يتفهمان سياساتها على مدى العالم، من كوبا الى العراق، ومن ايران الى اسرائيل، ومن ابعاد العمال المصريين الى الترحيب بالدكتور حسن الترابي. لكن لا بدّ ان تطوراً ما قد حدث لكي يعاد رجل في موقع ابراهيم غوشة من حيث اتى، غير مرفق بكتاب او بحارس او بايضاح الغاء الاقامة.

وسيف الاقامة في العالم العربي مثل سيف المواطنية، كلاهما مسلط وكلاهما بتار. وقد شرح الاردن اسباب منع غوشة من الدخول. واعطى زميلنا السابق واللاحق (ليس سريعاً هذه المرة، كما نأمل) صالح القلاب نحو الف ذريعة قانونية و... خوفاً واحداً: الخوف من ان يتحول العمل السياسي بجواز اردني الى طريق نحو «الوطن البديل»، من حيث النظرة القانونية.

وتكبر المأساة او تزداد البلية سخرية عندما نعرف، كما كتب عبد الرحمن الراشد، انه ليس هناك بلد عربي يريد ابراهيم غوشة. والاستثناء الوحيد هو صنعاء التي اعطته حق الضيافة العربية الاصيلة: ثلاثة ايام، على ان يتدبر في اليوم الرابع موطناً آخر في الوطن العربي الكبير الذي يصر على تحرير فلسطين بشرط بسيط واحد، هو اخلاؤها اولاً من الفلسطينيين.

وفي هذا الوطن العربي الكبير الذي لا يقبل الوحدة الا فورية والاتحاد الا غدا، كان في سالف العصر والزمان، مدينة واحدة تستقبل الفازعين والمربكين وغير المرحب بهم. ولم يبق سياسي عربي الا ومرَّ بها، هو وخصومه. وكان من عادة هؤلاء السادة، اذا ما عادوا الى السلطة، ان يطالبوا اول ما يطالبون، بطرد خصومهم. وكانوا يتهمون بيروت بأنها مدينة مخربين ومتآمرين بالاضافة الى كونها مدينة مدنسة تمارس شيئاً كريهاً يدعى الحرية.

وكم كنا نتمنى لو ان السادة المناضلين ابقوا في بيروت زاوية او ركناً من دون دمار، لكان الآن مكان ابراهيم غوشة الطبيعي، هنا، في هذه العاصمة التي اصرّ الجميع على ان الطريق الى فلسطين تمرّ بها، والطريق الى الوحدة العربية تمر فوق جثثها ومن نوافذها المدمرة. ولم تكن بيروت تعطي الناس مهلة ثلاثة ايام، بل كانت تتصرف على انهم ارباب المنزل وهي الضيف الثقيل الذي لا يزال هنا، بدل ان يسلم مكانه ويمشي وليس معه سوى فرشاة اسنانه. وقد حدث ذلك لعشرات الآلاف من اللبنانيين وهم يفرّون، احياناً بلا فرشاة اسنان، لانه لم تعد هناك حاجة لها. فقد جرت العادة ان تخلع الاسنان والاضراس كضرب آخر من ضروب النضال.