«صحوة» بوش على «باب الحارة»

TT

الأردن الأكثر لهفة للزيارة وترحيبا باللقاء والعناق:

«صبّوا هالقهوة وزيدوها هيل». رئيس الرؤساء سيحل بعد أيام ضيفا على النظام العربي. على الضفة الأخرى، عرب إيران في غاية الانزعاج والضيق: مستر بوش، عام جديد. لكن إقضِهِ بعيدا عنا. بين الترحيب والضيق، كم يبدو العالم العربي منقسما ومشرذما وممزقا بالسياسات والانتماءات المختلفة.

النظام العربي يعرف تماما أن جورج الثالث غير أبيه جورج الأول. العرب ينتظرون الزيارة ليعرفوا ويتأكدوا ما إذا كان جورج الثالث يختلف عن جورج الثاني الذي نَكَبَهُم في العراق خلال ولايته الأولى (2001/2004). لا حزن لدى النظام العربي على نظام صدام. لكن في المنطق السياسي والمذهبي، فقد أسقط جورج الثاني نظاما عربيا، وسلمه في غباء منقطع النظير إلى قطاع شيعي مُوالٍ ومنتسب لدولة أجنبية.

هل يختلف جورج الثالث المستنسخ من جورج الثاني؟ في طب الاستنساخ، النعجة دولّي لم تختلف عن شخصية أمها، لكنها ورثت ضعفها. جورج الثالث مزيج مستنسخ من السادات والقذافي وبلير. هو الآن في الحادية والستين، الوجه أقل امتلاء. العينان أكثر ضيقا. الأذنان أكثر طولا. الساقان أكثر اهتزازا وتثنيا. لم يعد بوش يركض ويعدو. بفضل رياضة الدراجة. بات أكثر تدينا وإيمانا بقليل من الخمر يحيي قلب إنسان كان مدمنا حتى الثمالة قبل عشرين سنة.

النظام العربي لا يهمه شكل بوش كثيرا. لم يعد خائفا من مشاريع «كينغ جورج» وهو في ربع الساعة الأخير من ولايته. ربما يستعجل النظام العربي رحيله، لكنه يريد أن يعرف ما إذا كان قادرا فعلا على صنع معجزة فلسطينية في نهاية عمره الرئاسي.

بوش يُعَوِّل على صيغة أنابوليس في زيارته للعرب. وعد بتحقيق تسوية فلسطينية/إسرائيلية. وحتى إذا لم تتحقق، فأي رئيس أميركي يأتي بعده مضطر لمواصلة طريقه. بوش في زيارته الواسعة يريد استعادة ثقة النظام العربي به، وتأكيد مصداقية أميركا في المنطقة.

الاهتمامات تكاد تكون واحدة ومشتركة، لكن أولويات النظام العربي غير أولويات بوش. العرب يضعون قضية فلسطين في الاعتبار الأول. بوش يقدِّم حربه على الإرهاب أولا، ثم استيعاب إيران وتطويق نفوذها في المنطقة ثانيا، وتجريدها من تقنيتها العسكرية النووية ثالثا. وهو يظن مخطئا أن طمأنة العرب وحمايتهم من الخطر الفارسي أهم عندهم من صراعهم مع الصهيونية وإسرائيل.

نعم، النظام العربي قلق إزاء إيران نووية، وقلق إزاء إيران متدخلة في شؤون العرب وسلامهم وحربهم. لكن الخليج، وبالذات السعودية، ما زال قادرا إلى الآن وبحكمة وتُؤَدَة، على إجراء حوار سياسي وسلمي مع إيران. بل الخليج يستقبل الرئيس نجاد محاورا وحاجّا. في حرب بوش على الإرهاب، النظام العربي يتعاون مخلصا مع أميركا وأوروبا، وهو أكثر توفيقا ونجاحا في تجفيف بؤر الإرهاب من أميركا. مصر مبارك أقنعت التنظيمات الانتحارية بالتخلي عن العنف والقتل. خلايا العنف والإرهاب تسقط الواحدة تلو الأخرى في السعودية. النظام الجزائري يُعاني، لكنه تجاوز محاولة التزمت الديني الاستيلاء عليه.

جورج الثالث القادم الى العرب فقد سطوة جورج الثاني الامبراطورية. بات أكثر تفهما وتعاونا مع حلفائه في العالم بعدما مرغ العراقيون أنف أكبر قوة في الوحل. كينغ جورج يستنجد في أفغانستان بدول الناتو لوقف زحف طالبان. حليفته باكستان تتفجر دما وعنفا. حليفته تركيا تغير على الأكراد المتوكلين على أميركا في العراق. الأسد يتحدى أميركا بالتدخل في لبنان. إيران تتحدى عباس بصواريخ التنك في غزة، وتحول دون تحويلها الى واحة للرفاهية الاقتصادية بمال أهل الخليج.

بات النظام العربي أكثر قوة وثقة بالنفس في عصر جورج الثالث مما كان عليه في عصر جورج الثاني. في زيارته للمنطقة، يطوي بوش خريطة الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا. كفَّ مع نائبه تشيني ووزيرته كوندي عن محاولة محو هوية المنطقة العربية لصالح دمج إسرائيل الصعب فيها.

غاب تخيير جورج الثاني للنظام العربي بين أن يغيِّر أو يتغير. لا أحد يظن انه سيعود خلال زيارته إلى إثارة الموضوع علنا وتحديا، ولا حتى سيهمس بهذا الموضوع الحساس في الآذان الرسمية. التجربة الديمقراطية العشوائية والمستعجلة في العراق وفلسطين جاءت بقوى غير ديمقراطية معادية للنظام العربي والأميركي. رفض النظام العربي منذ البداية إصلاحا يُدار من الخارج والداخل بأصابع أميركية.

لعل هناك تفاهم بين أميركا والنظام العربي. الهمَّ المشترك بفلسطين وإيران بات يتقدم كثيرا على همّ أميركا والنظام العربي بالإصلاح الديمقراطي. النظام العربي يعتقد أن طي جورج الثالث لمشروع جورج الثاني جعل أميركا أكثر قربا وثقة بالنظام العربي الحالي. عاد المنطق العربي في التأكيد على الاستقرار والأمن والاستمرارية يتقدم على منطق «الفوضى الخلاّقة» الأميركي المتذرع بحجة أن هذا الاستقرار الذي ساندته أميركا منذ خمسين سنة هو السبب في التزمت الديني وعنفه الإرهابي.

مع ذلك، أدخل النظام العربي لمسات تجميلية على وجه المرأة والديمقراطية الانتخابية مسايرة لأميركا. لكن الاختراق الإيراني والعنف الديني لا يسمحان، في رؤية النظام، بديمقراطية واسعة تتقدم على الحاجات الأكثر ضرورة. عمد النظام العربي الى إشاعة ليبرالية اقتصادية بدلا من الليبرالية السياسية. هناك سباق إنمائي في العالم العربي، وان كان يحتاج الى تنسيق أكبر بين الدول العربية، بل إلى وصمات اقتصادية ونقدية تعود بالفائدة على العربي العادي، ومن شأنها توسيع رقعة الطبقات الوسطى التي هي العماد لاستقرار حقيقي ودائم.

النظام العربي يستقبل رئيسا يواجه متاعب جَمَّة في المنطقة: إقناع إسرائيل بالانسحاب ووقف الاستيطان. إقناع بشار بالانسحاب من لبنان. إقناع الأكراد بعدم الدخول في مواجهة مع تركيا. بل ما زال العراق ساحة للحرب وليس بالصورة الزاهية التي ترسمها الإدارة الأميركية. إذا اقتنع بوش بتأجيل الديمقراطية المفروضة من الخارج، فعليه أن يبدي فهما أكبر وأعمق لمشاكل المنطقة، كيلا تسجل إيران نصراً على أميركا في لبنان. إغراء الأكثرية. مثلا، بالإقدام على انتخاب رئيس بأغلبية (النصف زائد واحد) قد يؤدي الى تفجير لبنان، في وقت من المشكوك فيه أن تستطيع أميركا التدخل عسكريا هناك لنجدة السنة والموارنة والدروز في الاشتباك المحتمل مع حزب إيران المدجج بالسلاح.

زيارة بوش للعرب أقرب ما تكون إلى الاعتذار لهم وللنظام العربي عما سببته إدارته من كوارث ومصائب وفوضى في المنطقة. بوش يعيش «صحوة» كتلك التي نجح في إحداثها لدى سنة العراق، فهبت للخلاص من «القاعدة» ونظامها التعسفي المغرق بتزمته وانغلاقه، وبتمزيقه للتعايش التاريخي بين السنة والشيعة والأكراد.

«صحوة» الزائر بوش وهو يطرق «باب الحارة» شكل من أشكال تجديد التفاهم مع النظام العربي المتمترس في «حارة» تريد أن تحافظ على تقاليدها وفضائلها وانتمائها في عالم متغير. لعل بوش يرى في «الحارة» العربية ما رآه الجمهور التلفزيوني العريض في هذا المسلسل الناجح، جمهور يغالبه الحنين الى الاستقرار والأمن، الخائف من جديد مجهول وربما خطير، وهو يرى الدم المسفوح في العراق، وإخفاق التجربة الديمقراطية في فلسطين، وما فعل التزمت الديني بسلام وأمن الجزائريين.

*أعتذر للقارئ عن كثرة الأخطاء في موضوع الثلاثاء الفائت. أكتفي بتصحيح الجملة الأخيرة في الموضوع: كان عقد وفك التحالفات بين الكتل السياسية الطائفية في الماضي جوهر الديمقراطية اللبنانية.