ليونيل جوسبان أمام ماضيه التروتسكي

TT

مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي ستجرى في ربيع عام 2002، بدأ الصراع يحتدّ بين اليمين واليسار، وتحديداً بين الديجوليين (نسبة إلى شارل ديجول) بزعامة الرئيس الحالي جاك شيراك، والاشتراكيين بقيادة الوزير الأول ليونيل جوسبان، وشرع كل واحد من الشقين في البحث عما يمكن أن يغرق الآخر في الوحل، وينزع منه ورقة الفوز في السباق. ويبدو أن اليمين الفرنسي الغارق منذ فترة في فضائح مالية وسياسية، الشيء الذي دفع القضاء الفرنسي إلى مطالبة الرئيس جاك شيراك نفسه بالمثول أمام العدالة، قد عثر على ما يمكن أن يساعده على تخفيف وطأة الأزمات الخانقة التي يتخبّط فيها، ويمنحه القدرة على مواجهة خصومه الاشتراكيين. وليس هذا غير اتهام الوزير الأول ليونيل جوسبان، رجل الحزب الاشتراكي القوي، بأنه كان منتمياً في شبابه إلى «المنظمة الشيوعية العالمية» ذات الاتجاه التروتسكي، ومن خلال هذا الاتهام يسعى اليمين إلى تحذير الفرنسيين من التصويت العام القادم لـ «متطرف قديم».

وخلال الأسابيع الماضية، شنّت صحف اليمين ووسائل إعلامه حملة عنيفة ضد ليونيل جوسبان متهمة إياه بـ «الكذب» و«التضليل» و«تزييف الحقائق»، تماماً مثلما كان الحال بالنسبة لفرنسوا ميتران، الذي اتخذ أحيانا من الكذب وسيلة أساسية لحماية نفسه من خصومه السياسيين، فأخفى عنهم العديد من الحقائق المتصلة بماضيه، بل حتى المرض الذي أودى بحياته.

وفي هذا الجانب، يمكن القول إن أهل اليمين الفرنسي قد حققوا انتصاراً نسبياً، ذلك أن ليونيل جوسبان الذي يعود إليه الفضل في ارجاع رفاقه الاشتراكيين إلى الحكم مصلحاً بذلك ما أفسده الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، كان قد دعى منذ توليه الوزارة الأولى، إلى توخي «الاستقامة» و«النزاهة» في العمل السياسي. وكان يخاطب رفاقه دائماً قائلا لهم: «التزموا الأخلاق الفاضلة في عملكم». وكان شعاره خلال ترشحه للانتخابات الرئاسية في عام 1995 «كل شيء لا بد أن يكون واضحاً مع ليونيل جوسبان». وفي حوار له مع جريدة «لوموند» في نفس هذه الفترة، نفى ليونيل جوسبان انتماءه للحركة التروتسكية قائلا: «لم أكن أبدا تروتسكيا في أي يوم من الأيام»!. وفي عام 1997، وعقب فترة قصيرة من تعيينه وزيرا أول، حاصره الصحافيون بالأسئلة حول ماضيه فرد قائلا: «أظنني قد أجبت عن هذا السؤال قبل عامين (ملمحا في ذلك إلى الحوار الذي أجرته معه لوموند) ولا أرغب في الخوض مجددا في الموضوع!».

غير أن اليمين تمكن من الحصول على حجج دامغة، تثبت بما ليس فيه أي مجال للشك، بأن ليونيل جوسبان كان قد انتمى في سنوات شبابه إلى «المنظمة الشيوعية العالمية»، ذات الاتجاه التروتسكي. حدث ذلك أواسط الستينات عندما كان طالبا في المدرسة القومية للادارة بعد حصوله على الاجازة في العلوم السياسية. وقبل ذلك كان قد نشط سياسيا وأبدى ميلاً شديداً للعمل السياسي.

وفي عام 1956، وكان آنذاك في التاسعة عشرة من عمره، وجد نفسه أمام أحداث وتجارب مريرة جعلته يبدي نفوراً من الاشتراكيين ومن الشيوعيين التابعين لما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي. فقد قبل الاشتراكي جي موليه ضرب الانتفاضة الجزائرية بالقوة وتحالف فرنسا مع بريطانيا وإسرائيل لضرب مصر بسبب تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس. وفي نفس ذلك العام، ارسل ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي، دباباته لغزو المجر، فلم يتردد الشيوعيون الفرنسيون في إبداء مساندتهم غير المشروطة له. كل هذا أصاب ليونيل جوسبان الشاب، بالقرف والاشمئزاز من الاشتراكيين والشيوعيين، فارتمى في احضان التروتسكيين، وشرع يتجادل معهم في مختلف المواضيع السياسية والفكرية والآيديولوجية. وفي هذه الفترة، التقى ببوريس فرانكيل، وهو تروتسكي بولوني من أصل يهودي، كان قد بدأ حياته مناضلاً يسارياً في الحركة الصهيونية قبل أن يصبح رمزاً من رموز الحركة التروتسكية في أوروبا بأسرها. وعن لقاءاته بليونيل جوسبان، يقول بوريس فرانكيل: «كان ليونيل جوسبان يأتي إلي لمواصلة دروس ثورية تؤهله للانتساب إلى الحركة التروتسكية، التي كنت أحد قادتها، وكانت مهمتي هي جذب الشبان الى هذه الحركة وتكوينهم آيديولوجيا وفكريا. وقتها كان ليونيل جوسبان طالباً في المدرسة القومية للادارة، وكان عليّ أن أبقي اتصالاتي به سرية، إذ ان الامر يتعلق بشاب سوف يكون في المستقبل موظفاً كبيراً. وكنت أوصيه دائماً بضرورة التكتم، وبتحاشي إبراز ثوريته لأن ذلك يضرّ به. ومع مرور الأيام تصادقنا وتوطدت علاقة كل واحد منا بالآخر».

ويضيف بوريس فرانكيل قائلا: «كان ليونيل جوسبان شابا جدّ موهوب، وجدّ رصين، وجدّ مختلف عن المناضلين الفرنسيين الآخرين، الذين كنت على علاقة بهم، والذين كانوا تافهين يتحدثون عن لينين وعن الثورة قبل أن يذهبوا إلى المقهى للمزاح. ولأنني كنت جدّ صارم مع نفسي، فإن الرفاق كانوا يسمّونني بـ«البروسي»، وكان ليونيل جوسبان «بروسيا» مثلي أنا تماماً».

عقب تخرجه من المدرسة القومية للإدارة، عيّن ليونيل جوسبان موظفاً في وزارة الخارجية، في القسم الخاص بالمساعدات الخاصة بالتنمية. غير أن سرعان ما ضاق بالعمل هناك، فغادر غير آسف، ليصبح استاذا في إحدى الكليات. وفي عام 1971، وكان لا يزال آنذاك على علاقة بالمنظمة الشيوعية العالمية، بدأ يقترب من الحزب الاشتراكي الذي كان فرنسوا ميتران قد احدث فيه تغييرات مهمة على المستوى التنظيمي والفكري والآيديولوجي والسياسي، فاتحاً أبواباً واسعة امام الشبان المتعطشين للعمل السياسي. ولم يلبث المناضل الشاب ان وجد في التوجهات الجديدة للحزب الاشتراكي ما يتناسب مع طموحاته وأهدافه، فأصبح واحداً من أعمدته الأساسية. مع ذلك، ظل على علاقة وطيدة مع رفاقه التروتسكيين القدامى، ومعهم كان يلتقي باستمرار وانتظام ليجادلهم في مسائل سياسية وآيديولوجية مختلفة ومتنوعة. ولأنه حاز ثقة فرنسوا ميتران بسبب رصانته وحماسه ومواهبه، خصوصاً في مجال الخطابة والجدل، فإن ليونيل جوسبان أصبح سكرتيراً عاماً للحزب الاشتراكي الفرنسي. ورغم ذلك، ظلّ على علاقة بالتروتسكيين. وتقول الوثائق التي حصل عليها اليمين الفرنسي، أن هذه العلاقة استمرت حتى عام 1987.

أمام الهجوم الإعلامي الهائل، الذي شنه هذا اليمين، تراجع ليونيل جوسبان عن أقواله السابقة. ويوم 5 حزيران (يونيو) الماضي اعترف أمام نواب البرلمان بأنه ارتبط بعلاقة مع التيارات التروتسكية خلال الستينات غير أن هذه العلاقة كانت جد خاصة. وقد كان من الأفضل له أن يعترف بهذا الأمر منذ البداية، إذ ان الانتساب في سنوات الشباب إلى تيار فكري وآيديولوجي لم يقترف مناضلوه جريمة سياسية تذكر، ليس عاراً، بل لعله كان جد مفيد، اذ انه أتاح لليونيل جوسبان أن يتحول إلى سياسي قدير أعاد للاشتراكية الفرنسية هيبتها ورونقها وأكسبها نضارة وشبابا كانت قد فقدتهما خلال السنوات الأخيرة من حكم فرنسوا ميتران.