قراءة متأنية لتقرير أجهزة الاستخبارات الأميركية

TT

كلما مر الوقت على نشر تقرير الاستخبارات الاميركية اتضحت الصورة اكثر. وإذا كان التقرير ملك ناشره قبل التعميم، فهو حتما ملك الكل ـ خاصة في عصر العولمة والانترنت ـ بعد نشره. وهذا امر يسمح بالتحليل والمزيد منه كلما ظهرت معلومة جديدة.

منهم من قال ان التقرير هو استسلام اميركي لإيران. والبعض الآخر قال ان الضربة العسكرية لايران اصبحت مستبعدة مع هذه الادارة. وفريق ثالث قال ان هناك صفقة كبرى في المنطقة، وإن التقرير ليس إلا دفعة على الحساب من اميركا لايران.

ويصنف بعض المفكرين في حقل العلاقات الدولية التقرير على انه «مؤشر مُكلف». بكلام آخر، إنه إشارة حُسن نية اميركية تجاه ايران تهدف إلى طمأنتها، وبالتالي فتح المجال لايران لتبدل سلوكها العدائي ضد الاميركيين خاصة في العراق، لتعود بعدها اميركا لترد ببادرة جديدة، وهكذا دواليك.

وفي هذا الاطار، هناك حادثة تاريخية مماثلة، وذلك عندما طمأن الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف اميركا عن تحول جذري في الاستراتيجية السوفياتية، الامر الذي جعل اميركا تبدل كل نظرتها الى الحرب الباردة.

كذلك، تُعتبر زيارة الرئيس المصري الراحل انور السادات لإسرائيل أحد اهم المؤشرات المُكلفة على صعيد الصراع العربي ـ الاسرائيلي. فقد بدلت هذه الزيارة، وما تبعها، كل اوجه الصراع العــــربي ـ الإسرائيلي. وقد طمأنت الأخيرة، الامر الذي أدى إلى تخليها عن صحراء سيناء التي كانت تعتبرها العمق الاستراتيجي الاهم لها على الجبهة المصرية. فهل يُصنف هذا التقرير «كمؤشر مُكلف»؟

لا شيء مجانياً في السياسة والعلاقات الدولية. المصالح دائمة لا الصداقات. فهل حقق اي كلام معسول يوما الاهداف القومية لبلد ما؟ بالطبع لا.

إذا لماذا تُعطي اميركا إيران ورقة مجانية تبرر سلوك النظام، هكذا وبعد عداء دام منذ عام 1979؟ أفلم تكن إيران دولة في محور الشر؟ وكيف تبدل كل هذا؟ او بالأحرى لماذا تبدلت الاستراتيجيات؟

من هنا ضرورة القراءة المعمقة والمتأنية للتقرير، فماذا عنها؟

1 ـ يؤكد التقرير ان ايران اوقفت مشروع سلاحها النووي منذ عام 2003. أي، قبل أن يكون محمود احمدي نجاد رئيسا.

وهذا امر ينزع من يده أي إنجاز في هذا الحقل. بكلام آخر، لم ينفع خطابه التصعيدي منذ ان اصبح رئيسا. وفي اي تفاوض مستقبلي، فإن ورقة السلاح النووي لم تعد تنفع.

فهل كان خطاب أحمدي نجاد هدفه ايجاد ادراك وتصور لدى اميركا لتعزيز موقف ايران التفاوضي، خاصة حول العراق؟ وهل هناك مؤشرات توافق حول العراق ستعالج لاحقا؟

يُقسم التقرير المسألة النووية ثلاثة اقسام: موضوع التخصيب، وهو الاهم، موضوع تحويل الاورانيوم المخصب إلى سلاح نووي، وأخيرا وليس آخرا، ضرورة توافر وسيلة إيصال السلاح إلى اهدافه.

ـ يعتبر التقرير ان ايران تمــلك كل القـــــــدرات اللازمة لصنــــع القنبـــلة النوويــة، إذا ارادت ذلك وعندما تريد، فهي تملك الخبرة العلمية والصناعية والتقنية.

ـ إذا كانت ايران قد اوقفت برنامج الاسلحة النووية عام 2003، فهي اوقفته بسبب ضرب اميركا لنظام طالبان، ومن ثم التحضير لضرب صدام حسين بسبب مشروعه لأسلحة الدمار الشامل، فمن الطبيعي ان توقف ايران وبحسابات عقلانية مشروعها الخاص.

لكن الاكيد، انها عاودت التخصيب بوتيرة سريعة بعد 2005 ـ 2006، وهو الوقت الذي بدأت اميركا تتعثر فيه بالعراق.

وإذا اعتبرنا ان التخصيب هو اهم وأصعب مرحلة للوصول إلى السلاح النووي، فإن ايران قطعت شوطا مهما في هذا المجال. لكن الخطر يكمن في وصول إيران إلى درجة تخصيب عاليــــة تفــوق 90% وبدون حاجتها الى مساعدة من الخارج. تُسمي إسرائيل هذه المرحلة «نقطة اللاعودة».

لذلك، يمكن القول ان التقرير قد يكون خريطة طريق للحرب أو خريطة طريق للدبلوماسية. لذلك يتم التشديد على تقديم حوافز لايران توفر لها مخرجا مشرفا، خاصة في ما يتعلق بمناطق نفوذها الاقليمية. لكن في الوقت نفسه هناك العصـــا مقابل الحوافز، وإلا فما معنى تشديد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي على استكمال العقوبات؟

كذلك، قد ينفع التقرير لجعل ايران تنفتح على الخارج اكثر، خاصة وكالة الطاقة الذرية.

قد يكون التقرير خريطة طريق لكل العاملين في هذا المجال من استخبارات وغيرها لتُركز على عامل التخصيب كسبب رئيسي للوصول إلى السلاح النووي.

فإيران تملك الصواريخ البالستية لكنها لا تملك الاورانيوم المُخصب اللازم لصنع القنبلة. وإذا ملكته، فمن الضروري ان تعرف طريقة تحويله إلى قنبلة. وإذا صنعت القنبلة، فعليها ان تكون قادرة على تصغير القنبلة لتركيبها على رأس الصاروخ، على ان تكون قادرة على تحمل قوة الاطلاق وغيرها من العوامل. وإذا توصلت إلى هذه الدرجة، فعلى ايران ان تكون قادرة على التوجيه الدقيق للسلاح إلى هدفه بواسطة الاقمار الصناعية.

كما عليها إدخال هذا السلاح في عقيدتها الاستراتيجية: متى، ضد من، ومن يُعطي الامر ومن يضغط على زر الاطلاق؟ وأخيرا وليس آخرا، على ايران ان تمتلك القدرة على الـ«ضربة الثانية» وفي الابعاد الثلاثة ـ بحر، بر وجو ـ فقط لان إسرائيل تملك ذلك.

إذن، مع كل هذه المتطلبات، يبدو مشروع السلاح النووي بعيدا. لكنه لا يمكن للمتصارعين إلا ان يخططوا للسيناريو الاسوأ. من هنا، فإن اماكن التخصيب قد تكون هي الهدف لأي عمل عسكري، علني او سري تخريبي.

ويجدر السؤال: هل التقرير منعزل في الزمان والمكان عن ظروفه؟

بالطبع لا، فهناك من يعتقد انه محطة في مسار طويل مُتفق عليه مسبقاً بين اميركا وايران. وإلا فما معنى الاستقرار الامني في العـــراق؟ وانخراط السنة في المؤســسات الامنـــية؟ وطلب الحكومة العراقية عودة اللاجئين؟ وانسحاب البريطانيين من البصرة؟ وعودة الحرارة في العلاقات المصرية ـ الايرانية بعد انقطاع منذ عام 1979؟ وكذلك سماح اميركا للقوات التركية بضرب حزب العمال الكردستاني؟

إذاً هناك ملامح لرسم نظام اقليمي للمنطقة سياسي ـ عسكري ـ اقتصادي تكون فيه اميركا عامل التوازن الاساسي، خاصة بعدما فقدت المنطقة مركز ثقل التوازن الاساسي التاريخي، أي العراق.

* عميد متقاعد

في الجيش اللبناني