العلاقات السورية ـ اللبنانية: أبوية استعلائية.. لا أخوية ندية

TT

هناك اجماع دولي وعربي، ولبناني، رسمي وشعبي، على ان الازمة اللبنانية المتمادية منذ عام ونيف، لها بعدان متداخلان ومتشابكان: البعد السياسي الداخلي، بوجوهه الطائفية والمذهبية والحزبية، والبعد الاقليمي بوجهيه الايراني والسوري. واتصال هذين البعدين بالمشروع الاميركي ـ الاوروبي للسلام المصطدم مع الجبهة الرافضة له المرتكزة على دمشق

وطهران والحركات والجماعات الاسلامية في المنطقة.

وان الازمة لن تنتهي ـ او تتحلحل ـ إلا عندما تلتقي على خط واحد، المصلحة الظرفية للأطراف الثلاثة الممسكة بخيوط تلك الابعاد. وليس هذا بمستحيل، وإن كان صعبا جدا.

وقد ادركت واشنطن وباريس، ما يدركه اللبنانيون جميعا، ان المفتاح الاكبر لباب خروج لبنان من محنته، انما هو في يد دمشق، ولذلك ركزت انظارها، في نهاية المطاف، على العاصمة السورية، مطالبة اياها بتسهيل الحل، وملمحة الى خطوات وتدابير ضاغطة، في حال استمرارها في تعطيل انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية اللبنانية، بواسطة «القوى السياسية الصديقة» (؟) لها في لبنان، و«التي هي، اليوم، اقوى مما كانت عليه من قبل»، على حد قول نائب الرئيس السوري، فاروق الشرع. وما جاء على لسان الرئيس الاميركي بوش والرئيس الفرنسي ساركوزي، «بحق» دمشق والرئيس السوري، صريح ومباشر.

ان السبب الرئيسي الذي جمد انتخاب قائد الجيش العماد سليمان رئيسا يكمن في دمشق اكثر منه في طهران، رغم كل ما يقال او يعرف عن العلاقات العضوية بين حزب الله والجمهورية الاسلامية الايرانية. واذا كانت طهران تستخدم «الورقة اللبنانية» و«حزب الله» في نزاعها مع واشنطن. وكان لحزب الله موقف عقيدي بعيد المدى، ومعروف، من الكيان والدولة اللبنانية، فان مشكلة «سوريا مع لبنان، اعمق جذورا من ثورة الارز» وابعد اهدافا وأقدم عهدا وبالتالي اصعب حلا.

وقد يكون من المفيد استعراض تاريخ العلاقات بين سوريا ولبنان، منذ بدايتها، أي منذ ان نشأ الكيان الوطني اللبناني، بقرار من المفوض السامي الفرنسي، عام 1920. ومن ثم بعد تكريس هذا الكيان دولة عربية ذات سيادة عام 1943.

ان دمشق، وباستثناء حقبات «ديموقراطية» قصيرة، لم «تهضم» «انفصال» «لبنان عن الكيان السوري». والأنظمة الحاكمة المتعاقبة في دمشق، رغم تباين منطلقاتها ومقوماتها وشعاراتها، استمرت في اعتبار لبنان جزءا من «سوريا الكبرى» التي تشمل، ايضا، فلسطين والاردن. (والعراق في نظر القوميين السوريين). والدليل الساطع هو امتناع دمشق، رغم تبدل الحكام

والانظمة فيها، عن اقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان، وترسيم الحدود بين البلدين رغم تعارض هذا الموقف مع ميثاق الامم المتحدة وميثاق جامعة الدول العربية.

في عام 1943، اقتنعت «الكتلة الوطنية» الحاكمة في سوريا، يومذاك،

بـ«شبه اعتراف» واقعي بالكيان الوطني اللبناني المستقل، بعد ان قرن بالاستقلال ـ اي بتخلي المسيحيين عن الحماية الفرنسية ـ وبالانتماء الى الاسرة العربية. ولكن ما أن راحت الانقلابات العسكرية تتوالى على سوريا، حتى راحت العلاقات اللبنانية ـ السورية، تمر بالازمة تلو الاخرى. مع حسني الزعيم الذي شجع الحزب القومي السوري على اعلان الثورة على الحكومة اللبنانية، ثم تخلى عنه، وهدد اكثر من مرة باحتلال لبنان.. الى خالد العظم الذي اراد من لبنان ان يتبع سياسة اقتصادية موجهة، تقضي على اقتصاده وازدهاره، فكانت القطيعة الاقتصادية والمالية بين البلدين.. الى تدخل سوريا السافر في ثورة 1958 (رغم ذوبان كيانها في الجمهورية العربية المتحدة) وهو تدخل لعبت «اجتهادات» السراج والمخابرات السورية فيه دورا تعدى «توجيهات» القاهرة.. الى الانظمة الحاكمة المتعاقبة في دمشق، بعد الانفصال وحتى وصول حافظ الاسد الى الحكم اواخر الستينات، التي كانت تطارد معارضيها وتغتالهم على الاراضي اللبنانية، والتي كانت تتدخل مباشرة في لعبة التوازنات بين التنظيمات الفلسطينية المقاومة في لبنان. اما الدور الكبير والحاسم الذي لعبته سوريا على الساحة السياسية اللبنانية، في الحرب التي اشتعلت فيه، من عام 1975 الى عام 1990، و«الوصاية» التي مارستها على الحكم والحياة السياسية، منذ اتفاق الطائف حتى عام 2005، فانه لا يحتاج الى تذكير او تفصيل.

لم «تهضم» دمشق خروجها من لبنان، عام 2005، لا بالشكل الذي تم به

ولا في الاساس. وسواء اعتبر النظام السوري هذا الخروج او بالاحرى هذا الاخراج، «اهانة» او «انكار جميل» او «خطرا على مصالحها الحيوية» او «تهديدا لدورها في المنطقة»، فان كل شيء يدل على انها لم تهضم ما حدث، ولم تنس ولم تغفر.

ومما يزيد في الموقف السوري قساوة، الشعارات التي رفعها معارضو وجودها، ولا سيما فريق 14 آذار: وتحديدا: اقامة تمثيل دبلوماسي بين البلدين، واقامة علاقات اخوية «ندية»، وترسيم الحدود، وحصر السلاح بالجيش وقوى الامن. وعلى الاخص: انشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والشهداء النواب والاعلاميين الآخرين.

لقد انقلبت العلاقات بين دمشق وبيروت، بعد عهدي الرئيسين الهراوي

ولحود، ومع حكومة فؤاد السنيورة، المستندة الى الاكثرية النيابية الجديدة، رأسا على عقب. ومن الصعب و«وغير المعقول» تصور اي نوع من «التعايش السلمي» بين النظام السوري الحاكم وفريق 14 آذار الحاكم

والمرشح للمشاركة في الحكم، دستوريا وواقعيا، حتى الانتخابات النيابية القادمة. ولما كان من غير المرجح تغيير النظام في سوريا، او اعادة الحكم في لبنان الى «القوى السياسية الصديقة لسوريا» ـ حسب تسمية الشرع، فإننا لا نرى الباب او النافذة التي يمكن فتحها للخروج من الازمة الراهنة.

نعم، هناك مصلحة سورية وطنية وقومية، ايا كان نوع النظام الحاكم فيها، في ان يكون الحكم في لبنان، موحد الخيارات المصيرية القومية معها،

ومشاركا في اكبر عدد من الخيارات والمواقف السياسية، ومتعاونا معها في قضايا الامن. وليس هذا بمستحيل او صعب، بل لقد نجح لبنان في تأدية هذا الدور القومي، والأخوي، في عهد الرئيسين بشارة الخوري وفؤاد شهاب. لا سيما ان الرئيس شكري القوتلي والرئيس عبد الناصر، لم يعتمدا اسلوب «الوصاية المباشرة» على الحكم اللبناني، ولم يطلبا من لبنان اكثر مما يستطيع تقديمه. وهذا ايضا ليس بصعب على قوى 14 آذار، اذا كان هذا «كل» ما تطلبه دمشق.

في عام 1920، رفض مسلمو لبنان، في اكثريتهم، الاعتراف بالكيان اللبناني وفصلهم عن «سوريا ـ الام». وفي عام 1950 كان رياض الصلح، حامل لواء العروبة والوحدة السورية، قبل ان يصبح رئيسا لحكومة لبنان، هو الذي وقع على وثيقة الانفصال الاقتصادي بين لبنان وسوريا، لأنه ادرك ان لبنان لا يحيا الا في الاقتصاد الحر، وانه سوف يختنق اذا اتبع النظام الاقتصادي الموجه الذي قررت سوريا اتباعه. وخلال الحرب اللبنانية الطويلة وبعدها ادرك المسلمون في لبنان انهم مجرد ورقة او آلة تستخدمها سوريا لخدمة مصالحها. وفي عام 2005، اعلن مسلمو لبنان، تمسكهم باستقلال لبنان وسيادته ونظامه الديموقراطي، مزايدين على الموارنة.

هل كان ذلك بسبب «الاخطاء» التي ارتكبتها سوريا في لبنان، منذ 1975؟ ام كان ذلك نتيجة تطور المجتمع اللبناني في ربع القرن الاخير؟ ام ان السبب الأعمق هو تغير المعادلات والأخطار في المنطقة، منذ انتهاء الحرب الباردة، ودخول العالم في مرحلة تاريخية جديدة. حتماً لم يكن موقف مسلمي لبنان نتيجة «تدخل واشنطن او باريس، في الشؤون اللبنانية» ـ كما يقول المعارضون ودمشق ـ بل لأن الوصاية السورية وأخطاءها دفعتهم الى ذلك.

حقيقة لا مفر من الاعتراف بها وهي: ان النظرة السياسية السورية، «الابوية» او «الاستعلائية»، القومية او الثقافية، الى لبنان، يجب ان تتغير، لتحل محلها نظرة وثقافة، اخوية ندية.

كما يجب على السياسيين والأحزاب في لبنان، ان يتحرروا من الطائفية

والمذهبية السياسية، ومن الارتهان بالخارج، كي تكون للبنان السياسة الخارجية التي تتطلبها مصلحته الوطنية، وأساسها وحدة ابنائه واستقلال كيانه وسيادة دولته وديموقراطية نظامه.