غلاء

TT

الغلاء هو «الترمومتر» الأساسي الذي تتعامل به الحكومات بمختلف أشكالها في دول العالم الثالث لمعرفة «وضعها» مع شعوبها وقياس الرأي العام ومدى القبول الموجود لها لدى رأي الشارع.

ومنذ فترة ليست بسيطة، وهناك حالة سخط وقلق غير قليلة في الدول العربية جراء ارتفاع الأسعار، وفي مختلف السلع والخدمات حتى وصلت لمستويات قياسية وغير مسبوقة، ولكن هذه الظاهرة ليست ظاهرة عربية فقط ولكنها ظاهرة عالمية تعاني منها المجتمعات الآسيوية والأفريقية واللاتينية على السواء.

وهناك سلسلة كبيرة من الأسباب لعل أبرزها ارتفاع أسعار النفط، والذي كان له الأثر الكبير في تكاليف الشحن والمواصلات، وكذلك التدهور الحاد والكبير الذي أصاب الدولار وأدى الى وصوله الى أسعار صرف شديدة التدني مع العملات العالمية الأخرى، وكذلك هناك أزمة خانقة في العديد من مجالات الحبوب والقمح نتاج ظروف مناخية وبيئية واقتصادية متنوعة، مع عدم إغفال أن بعض منتجي الذرة على سبيل المثال قرروا التركيز على إنتاج الذرة كمادة للطاقة البديلة، حيث يدخل المحصول في مادة الإيثانول كوقود بديل للسيارات.

ولجأت الحكومات الى سياسات مختلفة للتعامل مع الحال الاقتصادي الجديد في اتجاهين: تشجيع مغريات الانفتاح على اقتصاديات السوق وإزالة العقبات القائمة أمامها، كان الخيار أمام البعض هو إزالة الدعم عن بعض السلع والتحضير لذلك الطرح الحرج والحساس عبر حملات ولقاءات وندوات في الصحف والوسائل الاعلامية المختلفة، وهناك من لجأ الى وسيلة أخرى كإضافة بعض الرسوم والضرائب على خدمات وسلع لأجل تمكين الحكومة من معادلة فكرة الدعم بطرح آخر قد يمتص الغلاء ويحل المشكلة بصورة مؤقتة على أقل تقدير، وهو عكس الخيار الأول الذي يعول على اقتصاديات العرض بحيث يفتح المجال للمنافسة المطلقة وتكون هناك خيارات سعرية تنافسية تحول الأسعار الى مستويات دنيا تتيح للمستهلك الخيار الأنسب. وهناك طبعا الخيار الثالث والذي اعتمد على دعم بعض السلع ذات التأثير الأهم بالنسبة للمستهلك بحيث يصبح أثرها واضحا ومباشرا.

والواضح أن مشكلة الغلاء مشكلة أعمق من الحلول القصيرة الأجل، فهناك عناصر مهمة مطلوب إعادة النظر فيها لإيجاد «سوية» اجتماعية – اقتصادية تستطيع تحمل صدمات التضخم والغلاء، ولعل أبرزها إعادة النظر في موضوع مهم وحرج جدا ومتعلق بالأجور والحدود الأدنى لها، وهذا وحده جدير بإيجاد منظومة حقوقية وقيمية جديدة للسوق والذي ظل الموظف فيه يعاني من «بعد» و«إهمال» ووضعية غير واقعية عن متطلبات السوق الحقيقية، وكذلك يتطلب الأمر إعادة النظر في سياسات التعرفة الجمركية للسلع والرسوم على الخدمات بحيث تعكس الواقع الاستهلاكي وتعامل السلع بعدالة بدلا من تعميم لا داعي له يختلط فيه الحابل بالنابل.

الغلاء مشكلة وتناولها ممكن، وهناك العديد من الدول النامية (مثل النمور في آسيا ودول أمريكا اللاتينية) مرت بظروف شبيهة تمكنت عبر قرارات «مؤلمة» و«جريئة» من إيجاد صيغ جديدة للتعامل مع واقع صعب وغريب، كان أولها إعادة تقييم عملاتها مع الدولار وتحرير سياسات مالية واقتصادية تعكس واقع السوق الحر، ولكن السوق المسؤول في نفس الوقت، فليس هناك من انجاز يحتسب بمكاسب اقتصادية لا تنعكس بالخير الاجتماعي.

[email protected]