حصاد عام 2008؟!

TT

استعدوا أيها السادة، واربطوا الأحزمة، فبعد أيام قليلة، سوف ينطلق عام 2008، ويمتد بنا الزمن دستة أخرى من الشهور، بدأت حوادثها وتطوراتها في العام الذي انصرم توا وذهب إلى غير رجعة. ولن توجد هنا أية محاولة لاستطلاع المستقبل، أو قراءة الفنجان، أو حتى البحث بين أرقام وصور أوراق اللعب، فما لدينا هو أن الزمن، مثل المادة، لا يفنى ولا يخلق من عدم، وما أتى ذهب بعض منه، وجاء إليه البشر بالعمل والتراكم، والأخذ والعطاء، والحكمة والحماقة، لكي يتكون العام الجديد وهو يمضي في مسيرته أيضا بالأحداث لكي يشكل تاريخه الخاص، ويجد مكانه في أرشيف الإنسانية.

لا تنزعجوا أيها السادة كثيرا فلن تستمر فلسفة الزمن طويلا، ولكن المقدمة كانت ضرورية لأنني لم أجد فائدة كبيرة في البحث عن حصاد عام مضى وإنما التنقيب عما فيه سوف يظل صالحا ومؤثرا في الشهور القادمة. وبصفة عامة فإن عام 2007 اختلف كثيرا عن العام الذي سبقه في الشرق الأوسط من حيث اتجاه ظواهر كثيرة إلى الانفراط والتبعثر والفوضى لكى تأخذ نوعا من التماسك والاستناد إلى عملية ما تبعث فيها الحياة وتضعها على طريق الأمل. وربما كانت نقطة البداية كلها في العراق التي بدا أنها سوف تشكل مستقبل المشروع الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط؛ وفي نهاية عام 2006 لم يكن المشروع قد فشل فقط، ولكنه مع نهايته كان يأخذ العراق معه إلى الانفراط والتقسيم والتحول من الحالة المادية إلى حالة «سديمية» كتلك الحالات المعروفة في الفضاء الخارجي.

عام 2007 كان هو العام الذي بدأ فيه السديم العراقي في التماسك مرة أخرى، وكانت نقطة التحول عندما تغير موقف القبائل السنية، وظهرت جماعات الصحوة، لكي تغير من المعادلة العراقية كلها، وينجح العراقيون جميعا في تخفيض العنف بأكثر من 60% سواء من حيث عدد العمليات أو مناطق الإرهاب أو عدد الضحايا. ولم يكن ذلك ممكنا لولا أن الولايات المتحدة خفضت من أهدافها ليس فقط في العراق، وإنما في منطقة الشرق الأوسط كلها؛ وعندما خفضت الدولة العظمى من أهدافها لتغيير المنطقة كلها وقلبها رأسا على عقب، بات ممكنا تعاون الدول العربية الرئيسية وفي المقدمة منها السعودية ومصر وبقية دول الخليج العربية. وعند هذه النقطة سوف يكون اختبار عام 2008 عما إذا كان السديم العراقي سوف يستمر في الاتجاه نحو التماسك أو أنه سوف يعود إلى الانفراط مرة أخرى. والرهان هنا هو أنه سوف يستمر في التماسك، ليس فقط لأن كل العوامل السابقة والتي أدت إلى تطورات 2007 لا تزال مستمرة وفاعلة، ولكن أيضا لأن التدخل التركي والإيراني في العراق جعل الشيعة والأكراد والسنة أكثر تواضعا، وجعلهم جميعا يتذكرون لماذا كانت هناك دولة عراقية من الأصل، وفوق ذلك كله لم يبق في العيون العراقية مزيد من الدموع.

ومع التحول على الجبهة العراقية طوال عام 2007، جرت تحولات مماثلة على الجبهة الإيرانية ـ الأمريكية، فلم يكن العراق وحده ساحة اختبار القوة بين واشنطن وطهران، وإنما امتدت الساحة إلى الشرق الأوسط، ووصلت إلى فيينا حيث الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وحتى نيويورك حيث مجلس الأمن الدولي. وفي كل هذه الجبهات كان الاختبار مثيرا، ونجحت الولايات المتحدة في تشكيل جبهة دولية واسعة بدأت في الضغط على إيران وعزلها تدريجيا، وكان ثمن العزلة فادحا من الناحية الاقتصادية. ولم تكن يد إيران خالية من الأوراق فقد راحت تستخدمها بمهارة على الساحتين الفلسطينية واللبنانية، ولكن نتيجة الاختبارات، والاختبارات المضادة، كانت صفقة ـ حقيقة أو ضمنية ـ بمقتضاها قللت إيران من عبثها بالساحة العراقية، وقبل أن ينتهي العام كان مجلس المخابرات الأمريكية قد أعلن أن المشروع النووى العسكري الإيراني قد توقف عام 2003 معلنا رفع احتمالات توجيه الولايات المتحدة لضربة عسكرية لإيران طوال عام 2008 على الأقل، أو خلال إدارة جورج بوش كلها. وعندما تختفي إمكانية الضربات العسكرية فلا ينتظر وجود عمليات جراحية، ولا يبقى إلا السياسة والدبلوماسية وكثير من الدعاية والإعلام.

ساحة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية أكثر تعقيدا بحكم تعقد القضايا، ومواقف الأطراف، وعندما حل عام 2007 كان حاملا لميراث 2006 الذي كان أهم ما فيه هو صعود نجم حزب الله في لبنان بعد حرب الصيف مع إسرائيل، وصعود نجم منظمة حماس بعد فوزها في الانتخابات. وكما هي العادة فإن الصعود السريع أحيانا يحمل إمكانية زيادة الطموح حتى تصور حزب الله أن بإمكانياته السيطرة على الساحة اللبنانية كلها؛ أما حماس فتصورت أن فلسطين كلها قد باتت مؤهلة لقيادتها بعد إزاحة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. ولكن العام لم ينته إلا وقد تقلصت قدرة حزب الله في لبنان وتنتقل من أفق السيطرة إلى حالة الاعتراض، أما حماس فقد جرى تعليبها في غزة غير قادرة لا على المقاومة، ولا التفاوض، ولا إدارة لشؤون الشعب الفلسطيني، ولم يبق لديها إلا الشكوى من الأيام وظلم الزمن.

كل ذلك لم يكن ممكنا حدوثه لولا مجموعة من التحولات كان أولها تغير الموقف الأمريكي من الإدبار إلى الإقبال فيما يخص التعامل مع الصراع، فكان اجتماع «أنابوليس» ونتائجه؛ وثانيها كان أن الدول العربية الرئيسية أدركت أنها لا تستطيع تسليم مصائرها الاستراتيجية الإقليمية لكي تدار عن طريق السيد حسن نصر الله وخالد مشعل وفي النهاية طهران؛ وثالثها أن سوريا ساعة الجد كان عليها الاختيار، فاختارت الذهاب إلى «أنابوليس»، وأعطت ضوءا أخضر لاختيار رئيس الجمهورية اللبناني. وكانت محصلة ذلك كله عملية معقدة لتسوية الصراع العربي ـ الإسرائيلي تبدأ من حل القضية الفلسطينية، وربما تمتد إلى سوريا ولبنان أيضا. ولمن يعرف تاريخ الصراع يعلم جيدا أن مثل ذلك مستحيل الحدوث في واقع الشرق الأوسط المعقد، ولكن ما نعرفه على الأقل هو أن العملية التي بدأت عند نهاية خريف العام المنصرم سوف تستمر طوال شتاء 2008، لأن هناك من الزخم والإجماع الدولي ما يكفي لبقائها. وبعد كل ذلك سوف يكون لكل حادث حديث حسب تقدم المفاوضات، والمواجهات التي ستتم في غزة بعد أن تحاول حماس إفساد الطبخة كلها بسلسلة من العمليات الانتحارية الاستشهادية، ومدى نجاح السعودية في لم شمل الفلسطينيين مرة أخرى.

ولكن ربما كانت أهم تطورات المنطقة لا تجري على الساحة الإستراتيجية والإقليمية وحدها، وإنما سوف ترتبط بسلسلة مهمة من التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الناجمة عن عمليات إصلاح بدأت قبل أعوام وكان وقودها طوال عام 2007 ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة. وكانت نتيجة هذا الارتفاع من ناحية تدفق مستويات عالية من الدخل للمنطقة لم تتوافر لديها منذ وقت طويل؛ ومن ناحية أخرى اكتشاف أن كل دول العالم المنتجة للنفط تدهور احتياطياتها ما عدا دولة واحدة هي المملكة العربية السعودية حيث تزيد الاحتياطيات.

عام 2008 سوف يكون عام ترجمة الحقيقة الأولى إلى تطورات داخلية في البلدان العربية المختلفة سواء تلك المنتجة للنفط أو تلك غير المنتجة له، فالثروة إذا غابت أو حضرت يكون لها نتائج عظمى تتعلق بالنصيب والحظ والقسمة؛ وترجمة الحقيقة الثانية إلى تطورات استراتيجية وإقليمية، ولمن نسي عليه قراءة تاريخ السبعينيات وما فعله النفط من انقلابات كبرى، وفي 2008 سوف تكون هناك انقلابات كبرى تحدث هذه المرة في ظلال القرن الواحد والعشرين.

أيها السادة ألم أقل لكم اربطوا الأحزمة واستعدوا لانطلاقة عام جديد؛ وإذا كان فيما سبق تفاؤل أكثر مما يجب، أو تشاؤم أقل مما هو واجب، فأسألكم الصفح، فعند نهاية العام لا تصدق الأحكام دائما؟!