العراق.. تبوّء مرجعية الفاتيكان!

TT

لا شك أن تنصيب البطريرك عمانؤئيل الثالث كاردينالاً لأعلى مرجعية بالفاتيكان، أية زعامة كاثوليك العالم، يُعد حدثاً مميزاً، شأنه شأن قطف أديب أو عالم لجائزة عالمية، أو فوز فريق رياضي بمباراة دولية! وعلى وجه الخصوص في زمن بات الجواز العراقي، ومنذ عقود، وثيقة اتهام، وتراجعت فيه المنزلة. وبالجملة أنه بلد خلفت الروح العسكراتية فيه كراديس أيتام، وحقول موت، ويسعر فيه سعير الطائفية. ومع ذلك يصر أهلوه، من الأخيار، على المواجهة اليومية. وعلينا الاعتراف بأن احتفاء الدولة العراقية، المركز والإقليم، والمجتمع العراقي علانية بهذا التنصيب يعد تكريساً لروح التآخي، وتطميناً لمَنْ أقلقتهم الفواجع من أتباع البطريرك.

لفتت نظري قلنسوة الكاردينال العراقي، بين بقية الكرادلة، وقد بدت من طراز العَمائم، لا القبعات الحُمر، اللاتي باركها البابا بنديكتوس السادس عشر. وعندها توهمت الأمر بالرتبة الدينية، فدلي كان أسقفاً! والصحيح أنها من متعلقات التاريخ العراقي، وكم بدت شبيه بقلنسوة كوديا الأكدي، وبعمائم فقهاء المسلمين.

أمامي صور لمارات (سادة) الكنيسة الكاثوليكية العراقية، بداية من سولاقا (قُتل 1555) وحتى دلي، وقلانسهم لا تختلف طرازاً عما يعتمره علماء النجف، أو مدرسة الإمام الأعظم ببغداد. ألبسة واحدة، ومنشود واحد، مع اختلاف الطرائق! ولا غرابة، فقد قيل في تكريم الأب الكرملي، العام 1928: «وسوف يعيش الشعب في وحدة له.. عمائمنا في جنبهنَّ القلانس»(مجلة لغة العرب).

جاء لقب البطريرك عمانوئيل الثالث دلي (2003 ـ)، الباحث في فلسفة الفارابي، بعد الجاثليق عمانوئيل الأول (938 ـ 960 ميلادية)، المعاصر لأربعة خلفاء: الراضي، والمتقي، والمستكفي، والمطيع. كما شهد السلطنة البويهية ببغداد. ونلاحظ اختفاء لقب الجاثليق (رئيس الكنيسة العام)، الذي كان سائداً منذ العهد الساساني (تاريخ الكنيسة الشرقية)، وأول مَنْ أُتخذه، في تاريخ المسيحية جمعاء، أسقف المدائن، ليحل محله لقب البطريرك. ومعلوم جاثليق وكاثليك نِجارهما واحد!

ثم البطريرك عمانوئيل الثاني (1900 ـ 1947)، وتُذكر لهذا البطريرك قصة، يُعشى بها لبعث لغة التعايش بين الناس، وكبح الكراهية: كتب مير بصري (ت 2006): عندم نفى العثمانيين، في الحرب الأولى، جماعة «من وجهاء بغداد، من مختلف الطوائف والمذاهب، وأشخصتهم إلى الموصل في طريقهم إلى الأناضول، فذهب الفقيد إلى القائد الألماني.. يشفع فيهم. فأبدى المشير استعداده للعفو عن المسيحيين منهم فقط. فقال الحبر: إنني رجل دين، أب للجميع، ولا أخص ملتمسي بفريق دون فريق، فأعدهم جميعاً أو فأجلهم جميعاً» (أعلام السياسة في العراق).

كان المار يوحنا سولاقا أول زائر لعتبة الفاتيكان، من رؤساء كاثوليكك العراق، فبعد انتخابه جاثليقاً، لفريق مسيحي، إثر ظهور انقسام في الكنيسة الشرقية، ذهب إلى روما (1552 ميلادية) لينال فيها رتبة الأسقفية (شباط 1553)، وبالمكان الذي رٌسم فيه البطريرك دلي كاردينالاً (تشرين الثاني 2007)، كاتدرائية القديس بطرس. ولكم تأمل تشابك الأزمنة وتماثلها! عندها حدث التقارب مع الكرسي البابوي، حيث ظل القسم الآخر قائماً حتى يومنا، وله اختلاف في المفاهيم، وليس للفاتيكان أمر ونهي عليه، يمثله الآن البطريرك مار أدي الثاني ببغداد.

ويختلف مؤرخو المسيحية بالعراق، حول الانقسام الكنسي، بين اعتبار اعتناق الكاثوليكية (يمثلها الكلدان وسريان وآخرون) عودة إلى الأصل، بعد تأسيس الكنيسة الشرقية بالمدائن، بما يخالف الكنيسة الرومية، وانسجام مبادئ نسطورس معها. بينما يعتبر أصحاب الشرقية هي الأصل، على اعتبار أن المسيحية دخلت العراق، وأصبحت المدائن مركزاً للشرق (حديث مع أحد القسسة)، واتخذ أسقفها لقب الجاثليق، قبل تنصر الرومان (313 ميلادية).

على أية حال، أُسدل الستار، منذ زمن بعيد، على عصر المواجهات الطائفية الحادة، التي لا تخلف عادة سوى الموجعات، وأتفق أن لا إلغاء ولا محاربة. ووهبت الكنيسة بمجملها، عبر تاريخها، بلاد النهرين علماء وأطباء من أتباعها، ازدانت بهم بغداد، حتى أن الخليفة هارون الرشيد (ت 196هـ) قال لمِنْ حوله في طبيبه: «كل مَنْ كانت له إليَّ حاجة فليخاطب بها جبرائيل، لأني أفعل ما يسألني فيه ويطلب مني»(عيون الأنباء في طبقات الأطباء).

أجد من فائدة شرقنا الحفاظ على الوجود المسيحي، ذلك إضافة إلى ما يضفيه التنوع الديني، وبالتالي الثقافي، من تطور وحضارة، فإن وجود هذه الجماعة بمثابة بوابة من بوابات الانفتاح إلى العالم، وسبباً من أسباب التواصل الإنساني، والعراق قبل غيره من البلاد، لعمق الأثر المسيحي فيه. هذا، وكانت رسامة البطريرك الكلداني دلي لمرجعية الفاتيكان، ومن قبل رسامة السرياني اغناطوس تبوني، العام 1935، كاردينالاً، واحدة من حضور أرض السواد الدولي عبر مسيحييها.

[email protected]