قطرات «شيرة» على الزمن المر

TT

أتذكر اللحظة ذلك الحوذي الإريتري الظريف، الذي كان يقف بعربته وحصانه العجوز أمام بوابة ذلك المقهى الليلي، ليتكسب من إيصال الزبائن، وكان حصانه المنهك يعجز عن الركض، فيركض الحوذي وحده، تاركا خلفه العربة والحصان والزبائن..

وها أنا أضع قدمي في حذاء ذلك الحوذي وأركض، أجرد التقويم المعلق على الحائط من أوراق التوت القليلة التي بقيت تستر ما تبقى من جسد العام فيسقط عاريا.. أركض باحثا قبل الأوان عن ملامح عام جديد ينتمي إلى أزمنة سحائب الرشيد، وموشحات غرناطة، وبيارق صلاح الدين، فتخذلني صور التلفاز، ونشرات الأخبار، وأحقد على الذي قال: «إن التاريخ يعيد نفسه»، وكأن التاريخ حمامة أليفة تعود إلى وكنها.. فلو كان حقا يعود تاريخنا العربي لهبت علينا نسائم من عصر المأمون، أو عبق من أمجاد الأندلس.

خمس أوراق كاملة هي كل ما تبقى من العام أقذف بها من النافذة، أتأملها تتهاوى ببطء كطائر نورس جريح، تحلق فوق العربات المارة، قبل أن تستقر على سطح شاحنة.. خمسة أيام كاملة لم تأت بعد تحملها تلك العربة إلى أين؟!.. تختفي الشاحنة بسرعة كجنائز البسطاء، والسائق المخبول لا يدري أية مسؤولية جسيمة يحملها خلف ظهره!

راديو الجيران يبث أغنية لمحمد عبده تقول بعض كلماتها:

«وهم.. كل المواعيد وهم

تعب.. كل المواعيد تعب»

بينما المذيعة الحسناء على شاشة التلفاز في غرفتي تسأل المغنية الجميلة عن أمنياتها في عام 2008، فتلعق الجميلة شفتيها بطرف لسانها، وكأنها تريد تحلية الزمن، قبل أن تمطر جفاف الوقت بعطر الأمنيات.

حالنا هذه الأيام يشبه حال الروائي غابرييل غارسيا ماركيز صاحب «مائة عام من العزلة» حينما عاد إلى قريته الصغيرة في كولومبيا بعد طول غياب، فوقف على أطلالها وقال: «لقد تحول كل شيء إلى أدب». وها نحن نقف عند مفترق الأعوام على أطلال الوقت لنقول:

ـ لقد تحول كل شيء إلى فن.

فهذا العام القديم يمضي بلا وداع كرئيس مخلوع، وها نحن نستقبل عامنا الجديد بالرقص والغناء، وكأننا نريد أن نرشي الزمن كي يكون أجمل وأرق وأعذب.

وكل عام وأنتم قطرات «الشيرة» على الزمن العربي المر.