أوز الشتاء

TT

كل ربيع تخرج «النيويورك تايمس» عن تقاليدها السياسية وتخصص واحدة من افتتاحياتها الثلاث للكتابة عن عودة الاخضرار وقيام البراعم. ومع أول كل شتاء تخرج «التايمس» اللندنية من قرنين من السياسة لتكتب عن عدم جدوى التوقيت الشتوي. وكان أي. بي. وايت حتى السبعينات واحدا من أهم كتاب أميركا. وكنت كلما قرأت له، أرى أنه عن الشتاء أو الربيع أو حالة البط والأوز خلال الفصلين. ولأنه عمل في شبابه على ظهر إحدى السفن ـ في دائرة القمامة وفضلات المطبخ ـ فهو لم يكف عن استذكار تصرفات أسراب النوارس عندما يرمي في البحر بقايا الأطعمة: تصرخ مرحبة في صوت واحد.

عاش وايت يكتب لقرائه من بيته الريفي أخبار صراخ الأوز ونق البط والوفيات الطارئة في صفوفها. ومن حين إلى آخر كان يروي كيف أطلق النار على ثعلب أو ذئب هاجم بركة البط أو خم الدجاج. ولكن هل الطقس حقا مهم، بحيث يستحق افتتاحيات «التايمس» في بلدانها؟ لو قرأ أحدكم هذا التساؤل وهو في باريس والحرارة تناور ما تحت الصفر وفوقه بدرجتين، لما تردد في الموافقة. ولو رأى المياه مجمدة فوق التماثيل والنصب وفي سفح الأشجار وفوق بحيرات العشب، لأدرك لماذا تذكرنا المستر وايت.

عندما تفتح كتابا لمؤلف إنجليزي تراه يبدأ بوصف الطقس وبعده ينتقل إلى أبطاله. فسلوك الأشخاص سوف يكون محكوما بدرجة الحرارة. وكذلك لباسهم. وكذلك كانت الأفلام تبدأ بمشاهد «مناخية» لكي يعرف المشاهد أين تدور أحداث الفيلم: في الهند، في الملايو، أو في ثلوج نيويورك. وكانت كوبا وكازابلانكا ودلهي مسارح لا تتغير للروايات التي تدور فيها. وبقيت «المشاهد» في ذاكرة الناس أكثر من صور الأشخاص. تلك هي لوحات الطقس الحار التي رسمها همنغواي وحاول المخرج إعادة تصويرها: المراوح المعلقة في السقوف والوجوه المتعرقة والرجال الذين يرتدون سراويل الكاكي القصيرة. المناخ الحار يولد قصصا حارة.

وطقس باريس الآن يولد الزكام والصداع والدوام الرسمي، في الصيدليات. وقد انقلبت جميع مقاهي الأرصفة إلى الداخل. والأشجار تعرت من آخر لون أخضر وبدت مجرد غصون موزعة في الهواء، يضاف إليها أحيانا، ضوء هنا ولون صناعي هناك.

يغير الطقس من حوله كل شيء. وجميع الناس. الطبيعة تتعرى والرجال يكدسون المعاطف. وانه لفصل سعيد ترى خلاله نساء أوروبا وقد عدن إلى الأزياء الجميلة المتنوعة بدل زيّ العري، أو شبه العري، الموحد مثل الجيوش العائدة من الحروب. وكان شتاؤنا في القرى يشبه شتاء المستر وايت: ثلوج عالقة في أعالي الصنوبر وثعالب جائعة مسكينة تبحث عن دجاج غير ذي حراسة. وكان الدجاج قليلا في القرى وكانت مؤن الشتاء قليلة ولا كثير سوى المدافئ والحطب. وكان الدخان يتصاعد من جميع المداخن في جميع البيوت. وكان إذا غاب الدخان في منزل امرأة وحيدة و«ختيارة»، أدرك أهل القرية، أن ثمة واجبا محزنا يدعوهم.