سيد الفنون

TT

أشعر دائما أن الرسم سيد الفنون وأقدمها، وأن الرسام المبدع يمكن أن يتجاوز ظاهر الحياة إلى جوهرها وعمقها، وأمامي وأنا أكتب المقال لوحة زيتية تلقيتها هدية ذات يوم لفنان مجهول، تصور سيدة عجوز، تمشط شعر حفيدتها، وبجوارها فنجان من القهوة.. ونقلا عن بائع اللوحة أنها لفنان مصري، أحب السيدة موضوع الرسم حينما كانت في ريعان الشباب، لكن فرقتهما الدنيا والجدود العواثر، وحينما التقى بها من جديد في خريف العمر كانت قد غدت أرملة وأما وجدة لطفلة يكتنز وجهها براءة الدنيا، فأقبل على الزواج منها، مخلدا وجهها في عدد من لوحاته..

في كل مرة أتأمل هذه اللوحة أشعر أنها تحتضن داخل إطارها كل الفنون، فهي تعبر عن ذاتها كقصيدة، وتحكي سيرة مبدعها كرواية، وتطرب متأملها كقطعة موسيقى، وجسد الطفلة الصغيرة يتلوى في أحضان الجدة العجوز كراقصة تعبيرية.. فهي لوحـــة رغم بســـاطة موضوعهــا إلا أن بيني وبينها علاقة حميمة تجعلها فاتحة صباحاتي في كل مرة آوي فيها إلى شقتي الصغيرة في إحدى العواصم العربية، هربا من تعب الأيام.

كم تمنيت أن أصبح رساما، ولكنني فشلت، فكل معلمي الرسم الذين مروا في فترة طفولتي لم يكلفوا أنفسهم جهد تعليمنا، أو حتى تكوين علاقة إيجابية بيننا وبين هذا الفن العظيم، كان يأتي الوحد منهم إلى الفصل ليأمرنا برسم زهور داخل مزهرية، ثم يخلد إلى كرسيه ليغفو، ويتركنا نلهو في«شخبطاتنا» الطفولية، نحاول أن نستحضر أشياء لا علاقة لها بالبيئة التي نعيش فيها، فمدينة كجدة ارتبط تاريخها بالظمأ لم تكن بها إبان طفولتنا سوى ثلاث شجرات نيم، ولم تك بيوتنا آنذاك تعرف الزهور ولا أوانيها.. وحينما فشلت أن أكون رساما آثرت أن أتحول إلى عاشق لهذا الفن العظيم، أقرأ كثيرا عن مدارسه ونظرياته ورواده، وأفرح كثيرا بنوابغ الفنانين السعوديين أمثال عبد الحليم رضوي ومحمد السليم ـ رحمهما الله ـ وصفية بن زقر، وضياء عزيز ضياء، وطه صبان، وفوزية عبد اللطيف، وغيرهم..

الفن يجمل الحياة، والبيت الخالي من اللوحات بيت يسكنه الجفاف والجدب والتصحر، فأحيطوا أنفسكم بما استطعتم من جماليات الفن لكي تلون صباحاتكم بالنشوة والأمل وبهجة الحياة.

[email protected]