مقتل بوتو: لكي لا تطغى الأحزان على رؤية الحقائق والمصائر

TT

لم تكد الجريمة الخسيسة تقع (جريمة اغتيال بي نظير بوتو) حتى تفجر سيل من الروايات التي تتحدث عن الفاعل أو الفاعلين: استخبارات معينة وراء الحادث.. لا. بل هي جماعات متطرفة.. لا. بل هي جهات حزبية منافسة.. لا. بل هي دولة جارة.. لا. بل هم أعداء الديمقراطية (وهذه رواية جورج بوش).. ومهما يكن (الفاعل) والجهة التي تقف وراءه، فإن الفعل تناهى في الانحطاط والخسة والتخلف والتوحش والهمجية والكفر البواح بكل قيمة إنسانية وأخلاقية ودينية.

وعلى الرغم من موجة الأحزان السائدة الطاغية، فإن المطلوب هو (التبصر العقلاني) الناجز في المناخ العام، وفي مسرح الأحداث وخلفياتها، فإن مما يساوي الحدث المفجع في السوء والكرب: انحصار الرؤية فيه: انحصاراً يحجب ما يتوجب رؤيته: بلا غموض، ولا خداع.

اغتيال بي نظير بوتو لم يكن أمرا مباغتا لسببين: السبب الأول هو: انه منذ قريب جرت محاولة لاغتيالها كادت تنجح، وقد لمحت هي ذاتها الى ان جهات رسمية تقف خلف المحاولة!.. والسبب الآخر هو: ان المناخ الفكري والاجتماعي والسياسي في باكستان ملتهب جدا، على الرغم من المهدئات الجزئية البائسة التي هي دون ضرام الأتون بمعدلات هائلة.

ودون التقليل ـ ولو ذرة واحدة ـ من (العوامل الداخلية)، يدرك العاقل: ان باكستان وجدت نفسها، أو جُرّت قصدا إلى (مصطرع الإرهاب) ومصرعه.

في مقال سابق بتاريخ 15/11/2007 بعنوان (مشرف ضحية السياسة الأمريكية.. ومخاطر تحدق بالنووي الباكستاني)، وكان ذلك تعليقا على اضطرابات في باكستان أدت إلى فرض حالة الطوارئ.. في ذلك المقال قلنا: «إن برويز مشرف يبدو انه ضحية للسياسة الأمريكية الحمقاء الخرقاء التي استجاب لها باندفاع تدنت فيه حظوظ العقلانية ومناسيبها وحساباتها. وهذا بدهي.. فإدارة تنزل أفدح الأضرار بمصالحها وأمنها: لن تكون ناجحة في نصح باكستان ورئيسها. فمستحيل ان يجود المحروم بما حرم منه.. ومن المتوقع زيادة معدلات الإرهاب، واتساع رقعته، وتصاعد جنون بطشه. فالوضع الراهن المأزوم في باكستان زائد مضاعفات متوقعة: إنما هو (أُمْنية مجنحة) للقاعدة ولسائر الإرهابيين: أمنية كانوا يتمنونها، ويعملون على إيجادها من حيث ان أعظم مناخ يعملون فيه هو: الفوضى، وهياج المشاعر والعواطف، وارتفاع مناسيب الغضب الأهوج التي تدفع الغاضبين إلى الاستجابة الموسعة لنداءات فرق التحريض والاصطياد والتجنيد».

والمتوقع حدث، والمحذور المخوف حصل.. وإنما كان النصح من أجل: ألا يقع المكروه. ولكن الأهم ينادى من مكان بعيد.

والدرس الذي يتوجب أن يحفظه ـ ويفقهه ـ حكام باكستان، بل حكام العالم كله ـ مسلمون وغير مسلمين ـ هو: ان سياسات مكافحة الإرهاب الأمريكية: خاطئة، وانها زادت الإرهاب جنونا في كل مكان.. وفيما يلي مجموعة من الوقائع والحقائق والدراسات تثبت خطل النهج الأمريكي في هذا المجال:

1 – منذ أيام معدودة قال الرئيس الأمريكي حامد كرزاي: «إن استراتيجية مكافحة الإرهاب في أفغانستان قد فشلت ويجب تغييرها».. وهذه معلومة أمنية سياسية استراتيجية: يلزم اعتبارها وتمثلها لأنها صادرة عن رجل لا يشك احد في صداقته لامريكا، ولا في صدق تحالفه معها، وصادرة عن رجل (يده في النار) فهو لا يتخيل، وإنما يعبر عن النار التي اكتوى بها ـ وبلاده وشعبه معه في هذا اللظى ـ.. وإذ يوكد كرزاي فشل استراتيجية مجابهة الإرهاب في أفغانستان، فإنما يعني توكيده هذا أولا: ان الفشل (أمريكي)، حيث ان إدارة المحافظين الجدد هي التي تتولى تخطيط تلك الاستراتيجية وتنفيذها.. ويعني ـ ثانيا ـ ان الفشل قد تمثل في توسيع نطاق الإرهاب، ومدّه بمزيد من التغذية والوقود والمناخات والمسوغات!!.

2 ـ يقول المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن في تقريره السنوي الأخير: «إن الولايات المتحدة وحلفاءها يسعون منذ ست سنوات لاستئصال هذا الخطر. ولكن يظهر بوضوح متزايد ان أمريكا لم تنجح في ذلك».

3 ـ يقول مدير الاستخبارات البريطانية الداخلية: «ان هناك سيلا متواصلا من المجندين لقضية الإرهاب».. سيل «!!».. وليس حفنة محدودة.. ومما لا ريب فيه: ان السياسات الأمريكية الخاطئة في مكافحة الارهاب هي (سبب رئيس) من أسباب هذا التدفق الشبابي المرعب على بؤر الإرهاب وأقبيته وشباكه.. وفي هذا السياق: هل يمكن القول: إن بي نظير بوتو نفسها (ضحية) من ضحايا سياسة الإدارة الأمريكية الحالية في مجابهة الارهاب. فقد قالت: «انها تؤيد وتشجع التدخل العسكري الامريكي المباشر في باكستان لمحاربة الارهاب»!!.. هل قالت ذلك للمزايدة على برويز مشرف، بمعنى انها (أطوع) للأمريكيين منه؟!.. وما معنى هذه المزايدة القاتلة؟.. حتى لو كانت تعتنق هذه النظرية: حقيقة ـ لا مناورة ـ، فإن (الحصافة السياسية) تقتضي عدم المجاهرة بذلك: حفاظا على الذات من الاحتراق، ومراعاة للظروف الاجتماعية والسياسية المأزومة والمتفجرة في باكستان.

ليس هناك عاقل ذو خلق وشعور إنساني: يجادل في وجوب مكافحة الارهاب، إذ ليس هناك عاقل يجادل في وجوب مكافحة الأوبئة، بيد ان من حق كل عاقل ذي ضمير: ان يدين كل سياسة خاطئة: تغذي الارهاب، وتطوّل قرونه، وتصعد جنونه.

إن أمريكا اليوم بين خيارين اثنين: إما الانسحاب من معركة مواجهة الارهاب لأن برنامجها الراهن سبب كوارث اضافية للعالم كله في هذا الميدان.. وإما ان تسارع الى التخلي الفوري عن الكبر والمكابرة: تخليا مقترنا باصلاح جذري ومبصر لسياساتها وبرامجها: بالتشاور الموسع والحقيقي مع كل جهة عازمة على مكافحة الارهاب في العالم.

قلنا ـ منذ ثوان ـ: إن باكستان جُرّت الى مصطرع الارهاب ومصارعه، أي جُرت الى أوضاع تفقد فيها أمنها واستقرارها العام.. ولكن لماذا؟.. هل هي مقدمات (لزوال) هذه الدولة؟.. الاحتمال أقرب إلى الخيال، ولكنه احتمال على كل حال، ربما يجرده من الخيال ـ بعض الشيء ـ: السؤال التالي وهو: من كان يظن ان (باكستان الكبرى) ستنشق الى دولتين، بنغلاديش وباكستان؟!. لكن غير المظنون أصبح واقعا «!!!!»، فهل يأتي يوم تتصدع فيه باكستان ذاتها بسبب سيناريوهات جهنمية، وبسبب سياسات عجفاء غبية، وبسبب احداث عاصفة، تعدم فيها سفينة البلاد: الربان الماهر الأمين؟ ومع ذلك: قد يكون احتمال الزوال والمحو خيالا من الخيال.. وقد يتأخر هذا الاحتمال ليحل محله: احتمال آخر، ربما أكثر واقعية. وهذا الاحتمال هو (فرض وصاية ما على النووي الباكستاني).. لكأنما السيناريوهات كافة في باكستان تُصنع من أجل بلوغ هذا الهدف الكبير. فلم تكد الاحداث التي أدت الى فرض حالة الطوارئ ـ سابقا ـ تقع، حتى سارع قادة في الجيش الأمريكي الى التعبير عن مخاوفهم الشديدة على مصير (النووي الباكستاني).. ومنذ قريب ـ قبل مقتلها ـ قالت بي نظير بوتو: «إن هناك مخاطر تحيط بالسلاح النووي الباكستاني وابرز هذه المخاطر هو: استيلاء متطرفين دينيين على هذا السلاح».. نعم. قد يفسر كلامها على أنه (هزّ) لثقة الأمريكان في قدرة برويز مشرف على (تأمين) النووي الباكستاني ضد المتطرفين، بيد ان الكلام نفسه ـ مهما كانت بواعثه ـ (لعب بالنار).. ثم هناك (ارادة هندية اسرائيلية مشتركة) تستهدف لجم السلاح النووي الباكستاني: بصورة ما.

والمحور الأخير في المقال متعلق بما يبدو انه (نظرية جديدة لتغيير العالم الإسلامي).

وجوهر النظرية: ان التغيير (غير سلمي)!! والبدائل هي:

1 ـ التغيير بـ (الغزو الخارجي).. والنماذج الصارخة ـ حتى الآن!! ـ هي: افغانستان.. والعراق.. والصومال.

2 ـ التغيير بـ (التفجير الداخلي).. والنموذج الصارخ هو: باكستان.

3 ـ أو هما معا: الغزو الخارجي.. والتفجير الداخلي.. والنموذجان الصارخان هما: افغانستان.. والعراق.

والعبرة المستفادة هي:

أ ـ الكف الفوري عن سذاجة تأييد أي غزو خارجي لأي بلد.

ب ـ العكوف ـ نعم العكوف ـ على تأمين الجبهة الداخلية، وترسيخ الوحدة الوطنية بكل وسيلة متاحة. فما يحدث التفجير الداخلي إلا من خلال ثغرات وفجوات يدلف منها الخصوم الكائدون لتحقيق ما يريدون.