«رسملة» بوتو: «القاعدة» وكشف حساب السنة!

TT

رحلت «بوتو» في سيناريو يعيد تراجيديا عائلتها السياسية التي بدت كأنها تقدم أرواح أبنائها قرابين ونذرا سياسية من أجل باكستان مختلفة.. بداية يمكن القول إن فكرة الاغتيال السياسي العريقة كممارسة إقصائية تولد عادة من رحم تخوين «الآخر» وإزهاق حريته ورأيه وصولاً إلى الحكم عليه بعدم استحقاق الحياة ومن هنا، فإن الاغتيال السياسي في البدء يشخصن الخلاف مع

الـ«مغتال» بقطع النظر عن أثر الاغتيال على بقاء تياره السياسي أو حزبه أو حتى أفكاره بعد موته، فالمهم هنا هو إلحاق أكبر قدر من الخسائر والأضرار عبر استهداف الشخصية المحورية وتحويل الرمز المستهدف إلى «رأسمال سياسي» قابل للعطب والكساد بغض النظر عن أي سياقات اجتماعية أو اقتصادية ودون النظر في معطيات الواقع الأخرى.

هذا ما أرادته القوى الإرهابية التي تقف وراء جريمة اغتيال بي نظير بوتو البشعة سواء كانت «القاعدة» كما هو مرجح بسبب إعلان المسؤولية على الأقل أو بعض أنصار الجماعات المتطرفة أو حتى بعض خصومها السياسيين ممن يريدون خلق الفراغ برحيلها ليغرق حزبها في إيجاد البديل، ولعل «القاعدة» ستكون الأوفر حظاً من حيث الاتهام باغتيال بوتو فثمة إشارات تتناقلها وكالات الأنباء بأن «القاعدة» جاءت لحصد البريق الإعلامي وأعلنت مسؤوليتها عن الجريمة وباركت على لسان الظواهري خليتها البنجابية بقيادة مصطفى أبو اليزيد الذي قال: «لقد قضينا على أغلى رصيد أمريكي (بوتو)، والتي أعلنت عن عزمها إلحاق الهزيمة بالمجاهدين».

أبو اليزيد الذي خطط للعملية وأوجد الشخصية الانتحارية التي تقوم بالمهمة دون أن تنعم بنتائجها شأن كل الكوادر في الآيديولوجيات الشمولية، والتي تذوب في الصالح العام للحزب أو التنظيم وبسبب هذه التضحية المجانية يتحول الاغتيال إلى أحجية بالغة التعقيد من الصعب الكشف عن خيوطها أو الوقوف على ملابساتها بالتفصيل.

من نافلة القول ان جريمة الاغتيال عادة ما ترتبط بمحاولة فك الانسداد السياسي، وفي السابق كان ممكنا أن تقع جرائم اغتيال سياسي في بلدان لديها قدر لا بأس به من الانفتاح السياسي والديمقراطية، فالاغتيال ارتبط في حقب ماضية بتدخل المؤسسة الأمنية والاستخبارية لإزالة الاحتقان السياسي كما هو الحال إبان حقبة الحرب الباردة. وكانت يد الاغتيال حينها تطال شخصيات مختلفة يؤلف بينها ان تشكل حجر عثرة أمام السائد سياسياً كان أو اجتماعياً كما هو الحال في نموذج غاندي ولوثر كينغ، وحتى مناهضي الحرب الأهلية كهامرشولد وغيرهه.

لكن يبدو أن زمن «القاعدة» وجماعات العنف المسلح مختلف، فهي تغتال بالجملة وبأدنى مبرر لتبقي على حالة «الفوضى الخلاقة» التي تخلق لها مناخاً صحياً للعيش والتجنيد والتمويل، وبالتالي التأثير على الحراك السياسي على الواقع، وبغضِّ النظر عن التحفظ على بعض مواقف بوتو، فإن استهدافها المتكرر وإصابتها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ باكستان جاءا بسبب الإبقاء على حالة الفوضى لاسيما أنها بدت بعد عودتها شيطاناً غربياً يريد التربص بالبلاد، ويعطي إشارات سلبية لـ«القاعدة» بأن وصولها يعني فتح ملف الحدود ووزيرستان، وحتى المدارس الدينية، وهو ما لا يمكن أن تقبله الجماعات الأصولية فضلاً عن «القاعدة» التي لطالما أقلقها تأثير «بوتو» على الواقع السياسي لباكستان حيث تم الكثير منذ لحظة دخولها المعترك السياسي من جديد، فالرئيس مشرف ما عاد قائداً للجيش بل اصبح رئيساً مدنياً تخلى عن بزته العسكرية وما تحمله من دلالات. كما أنه أجبر على الإفراج عن الخصوم والمعارضين (ما يزيد على ستة آلاف)، وبينهم محامون وقضاة وشخصيات سياسية رفيعة، وهو بذلك كان يحاول أن يخرج من شرنقة الفوضى السياسية، بحثاً عن الاستقرار الذي يعني بالضرورة خنق «القاعدة» والتضييق عليها لاسيما مع ضآلة حظوظ الجماعة الإسلامية في ظل حضور بوتو والدعم الغربي الأمريكي بشكل خاص الذي تتلقاه باعتبارها تشكل ورقة ضغط ضد انفراد الحكومة بالسلطة.

ومع ذلك، فإن تصريحاتها النارية ضد «القاعدة» كانت العامل الأكبر الذي سرّع اغتيالها مما عده البعض اغتيالاً سياسياً في ظل قوة «القاعدة»، بوتو التي طالما انتقدت الرئيس مشرف على فشله في القضاء على المتطرفين، بالإضافة إلى مطالبتها بإغلاق المدارس الدينية حتى بلغ الأمر بمحمود الحسن، الناشط في حزب المجاهدين المرتبط بـ«الجماعة الإسلامية»، إلى التحذير من أن حوالي 3 آلاف انتحاري مستعدون لتفجير أنفسهم لاغتيال رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة بي نظير بوتو بعد نجاتها من تفجيرين استهدفا موكبها، وهي عائدة من المنفى في 18 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

اغتيال بوتو لن يكون حدثاً عادياً إذا ما أخذنا في الاعتبار ما تشكله بوتو لكل الأطراف، فهي الحليف الأول للغرب والبديل الجاهز، وهي الشخصية الرمزية ذات الكاريزما النادرة لدى أنصارها، وهي خصم «القاعدة» اللدود حيث يراها التنظيم عقبة كؤودا أمام مستقبله أو في الأقل قدرته على البقاء بشكل متوازن في باكستان الفوضى، وهي فوضى يمكن أن تزداد تعقيداً وتشابكاً، إذا ما علمنا أن الرئيس مشرف سيكون محاصراً بنيران الاستحقاقات ضد التطرف من قبل الولايات المتحدة التي عادت طبقاً لـ«فايننشيال تايمز» إلى «حالة الطوارئ القصوى» بسبب بقاء حيوية «القاعدة» في باكستان، مما يخولها إعادة بناء قيادتها من جديد.

وفي دراسة أخرى أصدرتها مؤسسة «ستانلي» البحثية طُرحت سيناريوهات مقلقة حول مصير باكستان بدءاً من شبح الحرب الأهلية إلى وقوع السلاح النووي الذي يملكه الجيش الباكستاني في أيدي جماعات متطرفة، وهو ما يعني في دلالته الأصرح؛ فقدان الولايات المتحدة لخط دفاعها الأول في حربها على الإرهاب، والتي تتمحور من وجهة نظرها في باكستان.

كشف حساب العام، يؤكد أن منطقتنا تعيش مخاضات فوضى مرعبة ما لم تحدث تغييرات جذرية على مستوى التعامل بجدية مع ملفات الإرهاب والتطرف وحقوق الإنسان والتعددية، وحدها الفوضى سيدة الموقف في أكثر من موقع من عالمنا المضطرب وربما إلى أجل مسمى!

[email protected]