الحملة التركية في شمال العراق.. رسائل متعددة الجوانب

TT

حجم الاستنفار السياسي والعسكري والدبلوماسي المرافق للعمليات العسكرية التركية المتواصلة في مناطق الحدود التركية ـ العراقية يعزز مقولة انها اكبر واهم من ان تكون عملية محدودة الابعاد والأهداف او على الاقل هي اوسع واشمل من ان يكون هدفها كما تقول قيادات حزب العدالة والتنمية، تدمير قواعد حزب العمال الكردستاني الذي يستفيد من حالة الفراغ الامني والجغرافي في تلك المناطق، لينطلق منها في تنفيذ عمليات اودت بحياة الآلاف وكلفت انقرة خسائر مالية ضخمة على مدى ربع قرن.

منذ اكثر من عام تقريبا وحكومة رجب طيب اردوغان توعد نفسها بمثل هذه الفرصة الذهبية، التي يريدها الداخل الشعبي بسبب حالة الاحباط والغضب التي تعكسها مراسم تشييع جنازات الجنود والضباط الذين يسقطون في مناطق جنوب شرق تركيا وتريدها ايضا المؤسسة العسكرية لاسترداد صورتها التي تعرضت للاهتزاز، وحاول البعض ابرازها وكأنها عاجزة عن المواجهة ويسعى لها اخيرا حزب العدالة في مواجهة حملات الانتقاد والتقاعس التي تطلقها احزاب المعارضة.

ويكفي هنا قراءة انعكاسات الاجواء السياسية والدبلوماسية التي سادت بلدان الجوار التركي ومواقف الحليف الاميركي والشريك الامني والاقتصادي اسرائيل الدائمة الجهوزية لتقديم خدماتها وسط ضمانات اوروبية ولا مبالاة معظم دول المنطقة لنقيم عن قرب حجم الانتصار العسكري والدبلوماسي، التي حققته انقرة على الارض.

فالمعركة تدور تحت عنوان التصدي لمنظمة أُعلنت ارهابية في الكثير من بلدان العالم ولا مجال هنا يعطى لأي كان ليخلط بين ما يجري وبين موضوع المزيد من الحريات والديمقراطية والمشاركة السياسية لأكراد تركيا. لا بل ان الكثير من العواصم والأنظمة استغلتها فرصة لتصفية حساباته مع القيادات الكردية العراقية التي ائتمنت اميركا على سلة البيض بأكملها من دون التنبه الى مخاطر خط الرجعة كما هي الحالة اليوم.

هي بايجاز عملية متعددة الوجوه والجوانب لها علاقة مباشرة:

ـ بمسار التطورات السياسية والدستورية في العراق على العموم وفي شماله بالتحديد، خصوصا بعد عام 2005 ودخول البلاد مرحلة اعادة تركيب وتنظيم فدرالي جديد يطلق يد الشمال وقياداته الكردية هناك التي كانت تغرد خارج السرب.

ـ بإلزام واشنطن مراجعة سياستها ومعادلاتها العراقية لناحية عدم الخلط بين الموقع والدور التركي ووضع اكراد شمال العراق وكان لحكومة اردوغان ما ارادت.

ـ بتعزيز حكومة العدالة التركية لمواقفها في رفض الحوار المباشر مع زعماء اكراد الشمال وإصرارها على اعتبار الحكومة العراقية المركزية وقيادة القوات الدولية المشتركة الموجودة في العراق هما المخاطب الاول والأخير «حيث تمارس تركيا حقها القانوني الدولي في الدفاع عن اراضيها ونفسها» كما قال اردوغان اخيرا.

انباء يومية تتناقلها وسائل الاعلام داخل تركيا وخارجها حول مساومات واتفاقيات تركية ـ اميركية تمت مناقشتها والاتفاق عليها خلال رحلة رجب طيب اردوغان الاخيرة الى الولايات المتحدة قبل اسابيع اعطي على اثرها الضوء الاخضر للبدء بالعمليات العسكرية لكن اردوغان وحكومته لن يمضيا كثيرا وراء سياسة الاستفادة من الغطاء الاميركي والخدمات الاسرائيلية وسينجح بإقناع قيادات شمال العراق بمراجعة سياساتها الاخيرة معطيا لغة الحوار والالتقاء فرصة جديدة لن يفرط بها. القبول مثلا بالاتفاق الأمني التركي ـ العراقي الأخير الذي وقعه بالأحرف الاولى رئيس الوزراء العراقي نور المالكي في انقرة بأتي في مقدمة الحلول السريعة القادرة على تنفيس حالة الاحتقان القائمة على الحدود بين البلدين على ان يتبعه تحرك القيادة المركزية في بغداد لتحمل مسؤولياتها السياسية والأمنية والدبلوماسية كاملة في تمثيل العراق والتحدث بصفة الضامن لوحدته واستقلاليته وسيادته.

نجاح الحكومة التركية في حشد وتجييش هذا الدعم المحلي والإقليمي والدولي خلال عملياتها العسكرية لا يقل قيمة وأهمية عن نجاحها في تجيير، واستخدام ما وصلت اليه على طريق اطلاق حملة تغيير وإصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي شامل في مناطق جنوب شرق البلاد، لصالح بناء صلح وسلام يوفر تعزيز الدور والموقع والمكانة الاقليمية لتركيا.