كيسنجر: نظرة أخرى (1)

TT

لعب هنري كيسنجر دورا هاما وطويلا في حياتنا. وفي مرحلة ما، كانت أفكاره وسياساته وقراراته تؤثر في حياة معظم مواطني الأرض: الأميركيين والسوفيات والصينيين والعرب، بالإضافة إلى الهند وأميركا اللاتينية وجزر القمر، فلم تكن هناك دولة على الخريطة ليس فيها سفارة أميركية. وكل سفارة كانت تنتظر تعليمات الوزير، الذي طرح نفسه على أنه قادم لصناعة التاريخ وإعادة صياغة سياسات الكون، فيما العالم ينتقل من كونية الحروب الكبرى إلى شمولية الحروب الصغيرة في القارات. وكان على العالم أن يدرك وأن يتذكر دائما أن هنري كيسنجر ليس سياسيا عاديا تقليديا جاء من العمل السياسي وطلب المناصب. وقد حرصت الحملة التي رافقت وصوله على تمييز شخصيته. رجل قادم من هارفارد، حيث تعلم وعلم تاريخ أوروبا في مرحلة زوال الامبراطوريات وتكاثر الحروب. وهو أول وزير خارجية غير مولود في أميركا، التي جاءها شابا. ثم إنه أول يهودي يصل إلى هذه الدرجة في سلم الإدارة الأميركية.

كان العالم مليئا بالحروب والأزمات لدى مجيء كيسنجر: أميركا اللاتينية. وحرب الفيتنام والهند الصينية. وأوروبا المنقسمة وفي وسطها برلين المجزأة. لكن بالنسبة إلى العرب كان وصول كيسنجر إلى البيت الأبيض كمستشار للأمن القومي ثم وزير للخارجية، يعني أكثر من بعد سياسي أو قرار إداري. ها هي أميركا تسلم قرارها إلى رجل قادم من بلاد «الهولوكوست» الألماني الذي كان الذريعة الكبرى لقيام إسرائيل. ومن المفترض بديهيا أن يدعم إسرائيل ويتخذ سياسات معادية للعرب. وهل كانت أميركا في أي حال بحاجة إلى مسؤول في مواصفات كيسنجر، لكي تؤكد طبيعة سياستها في الشرق الأوسط، خصوصا بعد 1967، وانتقال «العلاقة الخاصة» مع إسرائيل، من أوروبا إلى العالم الجديد. لقد دفعت أوروبا بالمال والسلاح والمهاجرين ثمن قيام إسرائيل، وبالتالي تشريد فلسطين: ألمانيا الغربية وفرت المال، في شكل تعويضات عن المحرقة النازية، وبريطانيا وفرنسا قدمتا الدعم العسكري والشراكة في الحروب، بما في ذلك السلاح النووي الذي حصل عليه شمعون بيريز في العقد الأول من قيام إسرائيل.

بعد 1967 وخروج فرنسا من السياسات غير المتوازنة والمعادية للعرب، تولت واشنطن عقد الحلف الاستراتيجي الكامل مع تل أبيب. ولذلك لم يكن ممكنا ألا ينظر العرب بالتساؤل والشك إلى الخلفية السياسية والشخصية التي جاء منها كيسنجر. وزادت الريبة عندما تولت الآلة الإعلامية في أميركا، المتأثرة تماماً بوصاية اللوبي الإسرائيلي، عزف الإنشاد وقرع الطبول للأكاديمي القادم إلى السياسة، لدرجة أن الصحف كتبت كيف يبحث المتطفلون في قمامة منزله عن أفكار وأسرار.

إلى اللقاء.