فصول دمشقية

TT

يبدو أن الرئيس الفرنسي، ساركوزي، غاص مبكرا في أوحال منطقتنا الخالدة، مقبرة الغزاة، أكان غزوا عسكريا أم سياسيا ام حتى حضاريا، فكله يندفن في المقبرة... المقبرة الخالدة.

يبشرنا ساركوزي بأنه يتحاور ويحاول مع نظام بشار الأسد من اجل تعقيله وترشيده، حتى يبتعد عن حضن ملالي طهران، ويدع لبنان في شأنه، ويكرر الرئيس الفرنسي التأكيد انه لن يقبل من الأسد إلا الأفعال لا الأقوال.

الحق أن نظام دمشق لا يبيع إلا سلعا محددة: الكلام والتسويف والاغتيالات المقيدة ضد مجهول. وعلى عينك يا تاجر، وسوى ذلك فسلع الافعال الحقيقية ضائعة مع سفنها على بحر اللاذقية.

إذا ظن ساركوزي انه أدرى من الدول العربية التي حاولت مرارا أن تصدق وعود بشار الأسد، ولكنها أخفقت، فهو واهم. إذا ظن أنه يحتال على نظام دمشق ويغريه بالتنازل فهو واهم.

ساركوزي يقول إن صبره سينتهي قريبا، وسيعلن كل الحقائق، وانه قد منح بشار فرصة أخيرة لفك العزلة الدولية والعربية، ولكن الواقع أن «الجماعة» في دمشق تلقوا الرسالة خطأ، كما يرى البعض، وآخرون يقولون بل تلقوها بشكل صحيح، ضمن حرص ساركوزي على مواءمة دمشق مع تل ابيب، غير أن التحليل السائد هو ان دمشق مخطئة في توهمها أن هرولة الفرنسيين إليهم هي دليل على أنهم هم الأقوى والأكثر إخافة للجميع، فقد كان صدام حسين يفكر بهذه الطريقة حينما كان يأتيه الموفدون من كل أنحاء العالم.

ربما من اجل هذه الفرصة التي منحت «جماعة دمشق» الفرصة للتنفس، عاد بعض أتباعها ليطلقوا المدفعية اللفظية ضد الدول العربية التي تخاصم خط بشار ونظامه القائم على التبعية لإيران، والإرهاب في لبنان. وعلى رأس هذه الدول المستهدفة من قبل دعاية دمشق: السعودية ثم مصر والأردن.

من آخر تجليات وإبداعات هذه الدعاية المضادة، اللغط الذي يصدر عن محازبي الأسد في لبنان هذه الأيام عن أن شخصا سعوديا هو الذي اغتال رفيق الحريري! قال هذا الكلام الوزير اللبناني «المهذب» والسابق وئام وهاب، المتخصص في الحرب اللفظية المحظورة ضد خصوم الأسد، قال ذلك صباح السبت الماضي على شاشة تلفزيون «نيو تي في» اللبناني، مضيفا أن هذه المعلومة تسربت من اللجنة الدولية للتحقيق في اغتيال الحريري. وحسبما أخبرني بعض المتابعين اللبنانيين، فإن نفس هذا الكلام ردده إعلامي عربي مقيم في بيروت وصديق لحزب الله، صديق جدا! مبشرا بقرب كشف هذه الحقيقة على الهواء. وقالها أيضا أهم إعلامي لبناني تابع لحزب الله لأحد الصحافيين النشطين في الصحافة الانترنتية.

معنى ذلك أن هناك توجها جديدا من قبل أتباع سوريا الأسد لتلطيخ الصورة السعودية والتشويش عليها، وهناك من هو جاهز لتصديق مثل هذه الأشياء. هذه الثرثرة انطلقت في ذات الوقت، إذ أن الفارق بين كلام وهاب والصحافي العربي والصحافي اللبناني أيام فقط. الأمر الذي يعني أن هناك إشارة تمت لبدء الحملة.

العرب تقول حدث العاقل بما لا يليق، فإن صدق فلا عقل له. السعودية هي التي اغتالت الحريري، أو تغاضت عن ذلك أو علمت به! هذا هو مؤدى «الشوشرة» الجديدة من قبل أتباع سوريا، أو المعارضة في لبنان. والفائدة من هذا؟ الفائدة هي أن دور الحريري قد انتهى بالنسبة للسعودية فآن أوان التخلص منه (أي دور، وكيف انتهى، ولماذا يصبح التخلص حتميا، لماذا لا يستقيل من السياسة مثلا؟!) وتفسير آخر: السعودية تريد توريط نظام بشار، لأنه سيكون أقرب المتهمين في اغتيال الحريري.. أيضا تفسير غريب لا يقول شيئا عن محاولة السعودية، والملك عبد الله بن عبد العزيز شخصيا، تخفيف آثار القرارات الدولية التي صدرت ضد سوريا بعد اغتيال الحريري، ولا يقول شيئا عن مبعوث السعودية إلى دمشق الذي حاول إفهام الأسد خطورة الوضع، محاولة استنقاذية حثيثة لدمشق، للدرجة التي أغضبت بعض قوى 14 آذار وهمست ـ ما معناه ـ أن السعودية تتهاون مع بشار ونظامه.

كل هذه المحاولات من قبل جماعة دمشق هي لإعادة الكرة إلى الملعب السعودي، ومعها دول الاعتدال العربي، ففي ظن مخططي النظام السوري أن الجسد السعودي «لبيس» و«تلبق» له تهمة الإرهاب، ففي كل عرس إرهابي تجد قرصا سعوديا، إذن فلنضف هذا القرص الجديد، حتى ولو كان بضخامة الحريري!

ومع أن مشكلة الإرهاب وثقافته المتعصبة، مشكلة حقيقية ولا يجوز الهرب منها أو تهوينها، لكن هذا موضوع آخر، غير ما تنويه أجهزة دمشق، وألسنتها، من خلال هذا اللغط الجديد.

مالا يفهمه مخططو النظام الاسدي هو انه لا يمارس إلا لعبة الوقت فقط، وان تغيير السلوك السوري أصبح مطلبا دوليا، وأن المحكمة صارت واقعا دوليا وقانونيا من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، شطبه وتبخيره في ضباب النسيان. هذا شيء، والشيء الآخر أن فاعلية نظام بشار في الحلف الإيراني وتحوله إلى جسر تعبر عليه مخططات ملالي طهران للاستيلاء على الشرق الأوسط، هو خط احمر بالنسبة إلى الأمن الاستراتيجي للسعودية ومصر والأردن ودول الخليج، وسوريا الأسد هي حصان طروادة بالنسبة للغزوة الإيرانية على المنطقة، ومن هنا أهمية المواجهة في لبنان بالنسبة للدول العربية مع سوريا، ليست المسألة كلها من اجل لبنان الداخل فقط، مع أن هذا مطلب نبيل، ولكن لدلالات الساحة اللبنانية في مسرح المواجهة مع إيران وتابعها السوري.

نظام بشار يعاني من العزلة، وحاول فكها في مؤتمر أنابوليس، لكنه عاد سريعا إلى بيت الطاعة الإيراني، الآن يراهن على الانفتاح الفرنسي، بل يحاول فك عزلته العربية بتوسيط ساركوزي مع الدول العربية، على الأقل إلى حين انعقاد قمة دمشق العربية في مارس (آذار) المقبل، ولكن مشكلة النظام في دمشق انه يريد أن يأخذ ولا يعطي، ومشكلته الأخطر الآن هي انه يعتقد بقدرته على تجاوز العرب كلهم، وجمع النار والماء بيد واحدة، فالكلام يتردد الآن عن دعم إسرائيلي للنظام في دمشق، وتحول جديد في تفضيل المسار السوري على غيره من المسارات، بل ومراهنة على نظام دمشق من اجل الاستقرار الإسرائيلي، حتى ولو تمت التضحية بالقضية الاستقلالية في لبنان، أشياء غريبة فعلا، ولكن نحن في زمن السريالية السورية، وقد كشفت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أن وزارة الخارجية الإسرائيلية وضعت القضية السورية في جدول أولويات أهدافها للسنة المقبلة، ونشرت الجريدة في عددها الصادر في 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي معلومات مستقاة ـ بحسبها ـ من مسؤولين سياسيين كبار في إسرائيل، أن إسرائيل تخطط لشطب سوريا من قائمة «دول محور الشر». وكان إيهود أولمرت قد قال في تصريحات سابقة «إن إسرائيل تنتظر ردا من سوريا بشأن معاودة المحادثات بين الطرفين».

وسوريا مسرورة بهذا التحول، حيث قال الصحافي الإسرائيلي شلومو غانور في اتصال هاتفي مع قناة «العربية»، «هناك اتصالات غير مباشرة بين سوريا وإسرائيل عبر وسطاء مثل ألمانيا وتركيا. وكل ما ينشر علناً لا يعبر عن طبيعة ما يحصل من اتصالات بين البلدين».

غير أن نظام دمشق يتوهم كثيرا إذا ما ظن أنه بالاعتماد على ورقة إسرائيل، سينهي مشكلاته الحقيقية، رغم أننا لا ندري حقا موقف إيران النجادية من هذه المغازلة بين الأسد وأولمرت، وان كنا نذكر سابقة غزل سري حدث في الماضي القريب بين إسرائيل وإيران الخمينية.

صفوة القول، ان ما يجري الآن هو محاولة من نظام الأسد لاستثمار أجواء الانفتاح ـ حسب تقديره ـ من اجل إعادة القبض على لبنان وإطلاق الوعود الكلامية، ورد الكرة إلى الملعب السعودي الذي صار ملعبا مزعجا ومحرجا للخطط السورية التخريبية. هناك حرب شرسة تحت الطاولة تقوم بها جماعة دمشق وأتباعها ضد السعودية، توشك أن تظهر للعلن، وأول طلعها حكاية الوزير المهذب وئام وهاب عن السعودية التي اغتالت رفيق الحريري..

واحسرتاه على دمشق الفيحاء.