من قتل كارهة الاستبداد؟

TT

في قضية اغتيال السيدة بينظير بوتو، يكاد الأمن الباكستاني يقول خذوني مرتين، الأولى عندما أصدر بيانا يقول فيه ان سبب وفاة الضحية هو اصطدام رأسها بسقف السيارة، لم تقتلها الرصاصات التي أطلقت أمام أعين البشر، ولم يقتلها الانفجار الذي قتل الآخرين، بل أن المسؤول عن وفاتها هو سقف سيارتها، وهو ما يذكرك بقول الشاعر، هذا كلام له خبيء.. معناه أن ليست لنا عقول. والمرة الثانية عندما ألقى بالتهمة بلا بحث أو تحقيق على طالبان التي ردت عليه بأنها لا تقتل النساء. وكان دليله في ذلك هو أن أجهزته اعترضت مكالمة تليفونية بين شخصين يهنئ فيها أحدهما الآخر بنجاح العملية.

ليست من وظائف الأمن في أي مكان على الأرض تحديد أسباب وفاة شخص، وخاصة بعد حادث بهذا الحجم وعندما تكون الضحية بهذه الحيثية وتلك المكانة، هذه وظيفة الطب الشرعي وبذلك يكون هذا البيان مريبا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إلا إذا كان الأمن في باكستان يعمل أيضا في الطب الشرعي، وهو ما نستبعده تماما.

أما في المرة الثانية فكانت عندما أعلن أن طالبان هي الفاعل بدليل المكالمة التليفونية التي التقطها. عند هذه النقطة سنتوقف قليلا لنقول.. رجال الأمن وظيفتهم متابعة الاتصالات التليفونية والتقاط المهم فيها الذي يساعدهم في منع الجريمة، وهم عادة لا يعلنون عن هذه المكالمات، فهذا أمر داخلي تماما يظل محصورا دائما في دائرة الاستدلال والاستنتاج ويساعد فقط على الوصول إلى الفاعل المحتمل ثم جمع الأدلة التي تفيد إدانته. والتنظيمات الثورية جميعها تلجأ للشفرة في اتصالاتها التي تتم عادة في أضيق الحدود وعند الضرورة القصوى، ويكون الهدف منها هو الإفادة بإتمام العملية، أما في حالة تفجير بهذا الحجم حدث أمام أجهزة الإعلام في العالم كله، بالإضافة إلى إعلان وفاة السيدة بوتو كما قالت كل وكالات الأنباء فمن غير المحتمل أن يتصل شخص ما بشخص آخر ليقول له: مبروك.. العملية نجحت.

كما أن أجهزة الأمن والمعلومات لا ترصد كلاما في الهواء لا هوية له مثل أسراب الطيور في السماء، بل هي ترصد خطوطا لها أرقام والأرقام لها أصحاب وأصحابها لهم أماكن يستقرون بها، وهو الأمر الذي يجعل الوصول إليهم ممكنا، وبفرض أن ما قالته أجهزة الأمن صحيح فيكون السؤال هو: حسنا.. لقد استطعتم اعتراض مكالمة تفيد أن طالبان هي الفاعل.. وماذا بعد.. هل أمسكتم بطرف من طرفي المكالمة؟ وإذا كنتم ما زلتم في مرحلة البحث والتحريات فما هو المقصود بالإفراج عن هذه المعلومة، إذا لم يكن إلقاء التهمة على طرف بعيد؟

هل هو الإحساس بالتقصير في حماية السيدة بوتو أم هي الرغبة في إغلاق الملف فورا لأسباب لا نعرفها حتى الآن ويراد لنا ألا نعرفها؟

في كل الأحوال، ما صدر عن أجهزة الأمن الباكستانية حتى الآن لا يدعو للطمأنينة ويثير فينا قدرا من الريبة تجعلنا نقول مرة أخرى إن الأمن الباكستاني مريب يكاد يقول خذوني.

وماذا عن تغطية مسرح الحادث والبحث الجنائي فيه، حتى الآن لم نعرف كلمة واحدة عن شخصية الشخص المفجر المتفجر، القارئ العادي الآن يعرف أنه بات من السهل التعرف على جثة الانتحاري المتفجر بين الضحايا، لأن التصاق المتفجرات بجسده تجعله الأشد تمزقا بين الضحايا، والتعرف عليه يقود إلى التعرف على محيطه ومن وراءه، ولكن من الواضح أن أجهزة الأمن لن تكون في حاجة إلى ذلك بعد أن قطعت بأنه لم يكن القاتل، القاتل كان سقف السيارة، والمحرض على القتل كان طالبان.

في أجهزة الأمن الحديثة، يوجد شخص يسمونه راسم الملامح (Profiler)، وهو شخص آخر غير الرسام الذي يرسم ملامح الوجه طبقا لأقوال هؤلاء الذين شاهدوا ملامح الجاني، بل هو يرسم أبعاده غير المرئية هو يحدد أفكاره ودوافعه التي أدت إلى ارتكاب الجريمة، وإذا كان لي أن أحدد ملامح القاتل من خلال المعطيات المتاحة، فأنا أقول.. القاتل عضو في جماعة تحرص على بقاء الاستبداد لأنها تكسب به ومنه الكثير، هي جماعة تخشى الحرية لأنها تعطي للانسان حقوقا تجعله يعجز عن ممارسة الاستبداد. والمرأة بالنسبة إليه نكرة لا حقوق لها، أما المرأة المتميزة ذات المكانة العالية، فهي تكشف له عن ضآلته وعجزه، وإذا كانت هذه المرأة واعية وشجاعة إلى الدرجة التي تصرح فيها علنا بأنها ستحارب التطرف الديني من أجل القضاء عليه، فهي إذن الشيطان ذاته، وعلى الجماعة ألا تكف عن محاولات القضاء عليها. وهم في سبيل ذلك يلجأون لوسائل يعف الشيطان نفسه عن اتخاذها، ففي التفجير الأول الذي نجت منه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أوقفوا بالقرب منها طفلا جميلا يرتدي العلم الباكستاني ثم فجروه، لقد حولوا طفلا إلى قنبلة. هل الشياطين قادرة على فعل ذلك؟

لقد خسرنا زعيمة خرجت بالزعامة عن دائرة الدجل السياسي وأعادت للسياسة في العالم الثالث وجهها النبيل، خسرنا داعية إلى الحرية والحياة المدنية، وفجيعتنا فيها نحن الحالمين بالديموقراطية، تساوي فجيعة أهلها وحزبها وشعبها.

في زمن مضى، كانت كلمة (بعيد) من مقولات العقل التي يطمئن إليها ويحتمي بها، فعندما يقتل مارتن لوثر كينغ داعية الحقوق المدنية في بداية ستينات القرن الماضي في أمريكا، فكان هذا يحدث بعيدا عني، كانت قضية تخص الآخرين البعيدين عني. وقبل ذلك عندما اغتيل الزعيم غاندي بواسطة متعصب طائفي غاضب من أجل الحفاظ على الطائفية في الهند، فقد حدث ذلك بعيدا عني، أما الآن فالدنيا أصبحت بالفعل قرية صغيرة، ليس بسبب تقارب المسافات وثورة الاتصالات، بل بسبب المشاركة الواسعة في الأفكار والقيم والمبادئ.

التفجير الذي أودى بحياة السيدة بوتو، لم يحدث في باكستان، لقد حدث بالقرب مني وتحت نافذتي، بل وتحت نافذة كل حر في كل بلاد العالم.