أكذوبة العام الجديد

TT

موضوع الدولة الفلسطينية هو اكذوبة العام الجديد، التي جرى التلويح بها في وثيقة التفاهم التي اعلنت في مؤتمر انا بوليس، والتقطها البعض وراحوا يهللون بها، معتبرين الأمنية خبراً والوعد صادقاً والحبة المخدرة دواء شافياً. وقبل ان اعرض لحيثيات هذا المنطوق، فإنني أدعو الى إعادة التفكير في موضوع الدولة التي يهديها العدو للشعب الواقع تحت تأثير الاحتلال راضيا ومتبرعا وهي حالة غير مسبوقة في التاريخ في حدود ما أعلم. ولأنها كذلك فإن افتراض البراءة في دوافع اقامتها يصبح تعبيراً عن الغباء المطلق أو البلاهة الشديدة. ذلك ان الدولة التي يحلم بها الفلسطينيون، والتي هي حق مشروع لهم، مختلفة كلياً عن الدولة التي تهديها اليهم اسرائيل.

فالأولى ينبغي أن تقام فوق الأرض التي عاش عليها الفلسطينيون منذ وجدوا، وان تكون لها مقومات السيادة المتعارف عليها بين القسمين، أما الثانية التي يريدها الإسرائيليون للفلسطينيين فهي دولة تلبي متطلبات المصلحة الإسرائيلية وتحل مشاكلها. وهذا الكلام ليس من عندي، ولكن شمعون بيريس قاله حين أعلن انه لكي تبقى إسرائيل دولة يهودية أخلاقياً وديموغرافياً فهي بحاجة الى دولة فلسطينية الى جوارها. وهو ما اقتنع به شارون واقنع به الرئيس بوش الذي أطلق وعده الشهير عام 2002 بدعوته لإقامة دولتين اسرائيلية وفلسطينية، فيما سمي برؤية بوش. وقد عبرت وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني عن هذه الفكرة حين قالت أمام مؤتمر المانحين انه مثلما أن الدولة الفلسطينية هي مصلحة إسرائيلية، فإن أمن اسرائيل يجب ان يكون مصلحة فلسطينية أيضاً.

الدولة الفلسطينية تريد منها اسرائيل عدة أمور: أن تخلصها من عقدة الذنب التاريخية، وتبيض صفحتها من الناحية الأخلاقية ـ كما ذكر بيريس ـ حيث بوسعها ان تقول انها لم تلغ الوجود الفلسطيني بالغارة التي شنتها عام 48، ولكنها أقامت لهم كياناً مجاوراً مستقلاً ـ وان تتذرع بوجود تلك الدولة لكي تلغي حق الفلسطينيين في العودة الى ديارهم التي طردوا منها بحجة انه صارت لهم «دولة مستقلة» ليعود اليها من يريد، ولكي تمهد لطرد فلسطينيي 48 الذين بقوا فيها، وأصبح نموهم يشكل خطراً سكانياً عليها الأمر الذي يجعلها تطمئن إلى «نقاء» الدولة اليهودية ـ وأن تكون الدولة الفلسطينية باب إسرائيل إلى العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.

هذا عن فكرة الدولة التي تريدها اسرائيل. أما مواصفاتها فهي أولاً تقام حتى على الاراضي المحتلة عام 1967 شريطة أن تنتزع منها الكتل الاستيطانية التي أقيمت عليها منذ ذلك الحين وحتى الآن (150 مستوطنة غير 200 بؤرة استيطانية يسكنها جميعا نصف مليون مستوطن)، وهذه المستوطنات مقامة فوق مصادر المياه والأراضي الخصبة في الضفة، الأمر الذي يمكن إسرائيل من الاستيلاء على 85% من مياه المنطقة. وفي مقابل هذه الأراضي المنتزعة فإن إسرائيل ستعوض السلطة الفلسطينية «بإهدائها» مساحات مماثلة في صحراء النقب فيما يسمى بمبدأ تبادل الأراضي، الذي قبل به ابو مازن للأسف، حين صرح بأن اسرائيل استولت في عام 67 على أكثر من ستة آلاف كيلو متر مربع من الأراضي، وعليها أن ترد المساحة ذاتها، دون النظر إلى طبيعة تلك الأراضي، وما إذا كانت أراضي زراعية وقرى وبيارات عاش فيها الفلسطينيون أم صحراء جرداء ألقيت فيها النفايات النووية!

أكثر من ذلك، فالدولة الفلسطينية التي تريدها إسرائيل ستكون مجرد معازل وكانتونات تقطعها الطرق الالتفافية الاسرائيلية وتشرف عليها المستوطنات ثم إنها منزوعة السلاح، وليس لها سيادة تذكر لا في البر أو البحر أو الجو. بالتالي فكل مداخلها تحت السيطرة الاسرائيلية التي تهدد بخنقها في اي وقت.

هي هدية مغشوشة ومستخدمة في حقيقة الأمر، ولا غرابة في ذلك، لأن تلك هي المواصفات الطبيعية لأية هدية تقدمها دولة غاصبة لأعدائها في أي ظرف عادي، فما بالك اذا كان الشعب الخاضع للاحتلال يعاني من التمزق والوهن الذي يعتري الحالة الفلسطينية.

انا مع الدولة الحلم الفلسطيني، ولست مع الدولة الذيل لإسرائيل. وإذا لم نستطع ان نقيم الأولى، فينبغي ألا نتورط في قبول الثانية، على الأقل في ظل موازين القوى المختلة بشدة كما هو الحال الآن. وإذا سألتني ما العمل إذن، فردي السريع انه لا سبيل لأي عمل جاد ومخلص طالما بقي الصف الفلسطيني ممزقاً كما هو عليه الحال الآن. وحين يلتئم ذلك الصف فهو الأولى بالإجابة على السؤال. وأي عمل قبل ذلك هو استسلام للفخ الاسرائيلي المنصوب، الذي يراد به إجهاض الحلم الفلسطيني وابتذاله.

من أسف أن ثمة قفزاً فوق طبيعة الدولة المعروضة، علماً بأن الشيطان يكمن دائماً في التفاصيل، كما يقول المثل الشائع، حيث أن أبو مازن ما برح يعرب في كل مناسبة عن أمله في أن تقام الدولة الفلسطينية قبل نهاية عام 2008، علماً بأن الإشارة إلى الموعد في «وثيقة التفاهم» لم تتجاوز حدود التلويح الذي لا يقصد به أكثر من جبر الخواطر ودغدغة المشاعر. فقد تحدثت الوثيقة التي أعلنها الرئيس بوش في مؤتمر أنابوليس عن تعهد الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي «ببذل كل الجهد للتوصل إلى اتفاق في نهاية عام 2008». وواضح من الصيغة أنها كانت منتقاة بعناية، بحيث تظل مطاطة وفضفاضة، فتقول ولا تلزم، وتلوح ولا تحل ولا تربط.

ولا أعرف كيف اطمأن قلب ابو مازن إلى جدية ذلك الاحتمال، رغم أن الذاكرة الفلسطينية لها خبرة طويلة مع الساعة الاسرائيلية التي تعتبر دائماً أن «التواريخ ليست مقدسة» وهي العبارة التي صارت مثلاً وقاعدة منذ أطلقها رئيس الوزراء الأسبق اسحق رابين، حين أخلف وعده بالانسحاب أو إعادة الانتشار من مدن الضفة الغربية في الوقت الذي تحدد عام 1995 تمهيداً لبدء الحملات الانتخابية لأول مجلس تشريعي فلسطيني (في يناير 1996) ورفض خلفه بيريس الانسحاب من الخليل رغم وجود اتفاق بهذا الشأن، الأمر الذي اضطر الفلسطينيين الى اجراء الانتخابات في المدينة تحت حراب جنود الاحتلال وجاء نتنياهو الى رئاسة الوزراء بعد الحاق الهزيمة ببيريس في انتخابات مايو 1996، ولم يلتزم بوعود اجتماع «واي بلانتيشن» الذي رعاه الرئيس الأمريكي بيل كلنتون عام 1998، ومن بعده لم يلتزم ايهود باراك بالمواعيد المقررة للانسحاب من قرى وبلدات في محيط مدينة القدس وفعل الشيء ذاته ارييل شارون، الذي نكث بوعوده للأمريكيين بإزالة بؤر استيطانية خلال فترة زمنية محددة، بما ينسجم مع ما قضت به خريطة الطريق، وهو ذات الموقف الذي التزم به رئيس الوزراء الحالي ايهود أولمرت.

الأهم من كل ذلك أن الجانب الإسرائيلي لم يلتزم بموعد مايو 1999، الذي كان يفترض أن يكون نهاية المرحلة الانتقالية التي حددها اتفاق اوسلو الأول (سبتمبر 93) والثاني (سبتمبر95)، بما يمهد لإعلان الدولة الفلسطينية.

هذه الخلفية تطرح السؤال التالي: هل يكون الأمل الذي عبرت عنه وثيقة التفاهم المشترك أكثر أهمية وقدسية من كل التواريخ السابقة؟ لم يقصر الاسرائيليون في الإجابة، لأنه قبل ان يجف حبر التوقيع على وثيقة التفاهم التي أعلنها الرئيس بوش سارع أفي ديختر وزير الأمن الداخلي وأحد أركان حزب (كاديما) الذي يرأسه أولمرت، إلى القول بأن الجدول الزمني المشار اليه غير واقعي وقال في تصريحه الذي نشرته «جيروساليم بوست» أنه في نهاية عام 2008، ستكون لدينا معرفة أفضل حول كيفية الأداء الفلسطيني في إشارة واضحة إلى أن العام الجديد سيكون عام اختبار قدرة السلطة الفلسطينية على القضاء على المقاومة في الضفة وغزة.

بعد انتهاء مؤتمر أنابوليس ذكر رئيس الوزراء الاسرائيلي إيهود اولمرت أن المنطقة ستشهد «انعطافاً تاريخياً» في اتجاه التوصل الى حل نهائي مع الفلسطينيين. لكنه ما أن عاد إلى تل أبيب حتى أصدرت حكومته قرار بناء 300 مسكن جديد للمستوطنين في جبل أبو غنيم. وبعد أيام قليلة أعلنت وزارة الإسكان بأن 400 سكن إضافي ستقام في مستوطنة معالي ادوميم. الأمر الذي بعث برسالة مفادها أن المخططات الاستيطانية مستمرة ولن تتوقف، وتزامن ذلك مع بدء مفاوضات ترتيب ملفات الوضع النهائي بحضور ممثلي الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وهو ما دفع صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطيني إلى القول ان الوفد لن يذهب للمشاركة في المحادثات قبل أن يتلقى إيضاحات من الجانب الأمريكي بخصوص موضوع الاستيطان، ولم نعرف ما إذا كانت الإيضاحات قد توفرت أم لا، لكن ما حدث أن الوفد الفلسطيني استمر في المفاوضات دون أن تتراجع الحكومة الاسرائيلية عن موقفها، بل وأصر المسؤولون الاسرائيليون على أن مؤتمر أنابوليس لم يسفر عن أي اتفاق يوقف الاستيطان. وغاية ما أمكن التوصل اليه في اجتماع أبو مازن وإيهود اولمرت هو الاتفاق على عدم اتخاذ أية خطوات من شأنها أن تؤثر على حسن سير المفاوضات، وهو بدوره كلام مطاط لا يحل ولا يربط.

أما أحدث الأخبار الواردة من رام الله، فتحدثت عن تقييم أمريكي أبلغ إلى رئاسة السلطة الفلسطينية، خلاصته انها بحاجة الى خمس سنوات على الأقل لتنفيذ الاستحقاقات الأمنية التي وردت في المرحلة الأولى من خارطة الطريق. الأمر الذي يعد تكذيباً آخر لشائعة إقامة الدولة بعد الاتفاق على معاهدة سلام مع إسرائيل قبل نهاية 2008.