عودة إلى المسألة الباكستانية مرة أخرى!

TT

منذ أسابيع قليلة كتبت في هذا المكان عن «الخطيئة الأصلية في المسألة الباكستانية» تحدثت فيها عن المشكلات البنيوية للدولة الباكستانية والمتعلقة بشرعية الدولة ونظام الحكم والمجتمع السياسي، والتي كانت تشير إلى كوارث كثيرة مقبلة. وساعتها لم تكن هناك طريقة ممكنة للتنبؤ بحادث اغتيال السيدة بنازير بوتو، خاصة أنه بعد أيام قليلة من نشر المقال بدا كما لو أن السياسة الباكستانية يمكنها العودة إلى بعضٍ من سماتها المعروفة حيث يبتعد العسكر قليلا ويقبل المدنيون على إدارة الحياة السياسية مهما كانت صعوباتها وتعقيداتها. وقد حدث هذا عندما خلع الرئيس برويز مشرف بزته العسكرية وارتدى الملابس المدنية، وأصبحت الساحة جاهزة للمنافسات التقليدية ـ والعقيمة أيضا ـ بين بنازير بوتو زعيمة حزب الشعب من ناحية، ونواز شريف زعيم حزب الرابطة الإسلامية من ناحية أخرى، حينما عاد كلاهما من المنفى لكي يقودا ما كان لهما قيادته تقليديا من مؤسسات وجماهير وأقاليم أيضا.

ولكن الحالة الباكستانية السياسية والاجتماعية كانت مستعصية إلى الدرجة التي تجعل رجوع الحال من المحال كما يقال، فقد تغيرت باكستان كثيرا عما كانت عليه في التسعينات بعد أن أصبحت التجربة المدنية كلها مدانة بعد سنوات من حكم العسكر على القمة، وحكم المجاهدين من «القاعدة»، وكلاهما لديه مشكلة من نوع أو آخر مع الدولة المدنية. أما الدولة الديمقراطية فواقعة لديهما بين المعصية والخطيئة. وكان نتيجة ذلك تلك العملية البشعة لاغتيال بنازير بوتو وسط أنصارها ومحبيها في حزب الشعب لكي تتفكك العملية الديمقراطية كلها حتى باتت عملية الانتخابات المنتظرة في الثامن من يناير (كانون الثاني) الجاري مشكوكا فيها بعد أن طالب شريف بتأجيل الانتخابات واستقالة مشرف معاً. وهكذا فإن عملية اغتيال بنازير كانت أكبر من مجرد اغتيال زعيمة سياسية وإنما كانت اغتيالا لإمكانيات التحول الديمقراطي التي كانت السيدة المغدورة تحاول الوصول إليه عندما قررت العودة إلى باكستان مرة أخرى بعد سنوات من الغربة والاتهام بالفساد. وببساطة، فإن الدولة الباكستانية لم تتكون لديها أبدا تلك العاطفة الديمقراطية الجياشة التي تولدت في الهند وجعلتها قادرة على تجاوز محنة اغتيال المهاتما غاندي أو أنديرا غاندي والعودة بسرعة إلى المسار الديمقراطي. وما ظهر بعد الاغتيال لم يكن حالة من التماسك القومي لمواجهة كارثة محتملة، وإنما حالة من التفكك التي كانت ظاهرة بجلاء قبل ذلك بوقت طويل.

ومن الجائز أن الصراع حول الديمقراطية والدولة المدنية كان واحدا من ساحات الخلاف الباكستانية، ولكن ما كان لا يقل أهمية فقد كان ـ كما أسلفنا في المقال السابق ـ الصراع على هوية باكستان وعما إذا كانت دولة للإسلام أم دولة للمسلمين. والحقيقة أن بندول الهوية الباكستانية سرعان ما ذهب في اتجاه أن تكون الدولة للإسلام بمعنى أن تكون منصة للدعوة والفتح والانتشار الآيديولوجي في الدنيا شرقا وغربا حتى ولو كانت أحوال المسلمين في الدولة من أكثر الأحوال فقرا وفاقة في العالم كله. ولم تكن هناك صدفة أن «المدارس» الباكستانية الدينية هي التي أسست الدولة من جديد لكي تكون الرافدَ الأساسيَّ لحركة عالمية جهادية واسعة الانتشار بجهاد القلب واللسان واليد معاً.

وفي الحقيقة، فإن النخبة السياسية الباكستانية حاولت إنقاذ باكستان استنادا إلى التقاليد العسكرية، أو حتى التقاليد المدنية الديمقراطية. ولم يكن اتجاه باكستان نحن إنتاج السلاح النووي تحت إداراتها المدنية والعسكرية معا إلا محاولة لتعزيز دور الدولة وتقويته كوعاء اجتماعي للباكستانيين. ولوهلة في عام 1998 بدا ذلك ممكنا، إلا أن الطبقة السياسية ذاتها كانت بالغة التفتيت والتشرذم. ولم يكن الخلاف بين بنازير بوتو ونواز شريف أقل عمقا من خلافهما سويا مع العسكريين؛ وحتى السلاح النووي الذي كان درة تاج النخبة السياسية فقد قام عبد القادر خان بتوزيع نتائجه ذات اليمين واليسار في سابقة غير مسبوقة في دولة نووية أخرى حتى لم تعد هناك مصداقية للدولة الباكستانية في الإطار العالمي.

وبدون الدخول في كثير من التفاصيل كان المجتمع الغارق حتى الآذان في عملية أسلمة باكستان قد انتصر على الدولة بينما يتحول هو ذاته إلى حالة غازية مبعثرة. وما حدث كان أن باكستان أصبح فيها ما يكفي من الانتحاريين والاستشهاديين لكي يوزعون مجهوداتهم على العالم كله؛ ورغم جهود فائقة مما تبقى من الدولة الباكستانية إلا أن جماعة «القاعدة» وجماعة طالبان وجماعات متعددة لديها أنواع مختلفة من الجهاد راحت تتجول بحرية في مناطق الجبال والحدود الأفغانية ـ الباكستانية. وبالنسبة لهؤلاء جميعا، فإن بنازير بوتو مثلت صيدا ثمينا؛ فهي امرأة، والجماعات الإسلامية في العموم لديها حساسية خاصة من النساء لاسيما اولئك الراغبات في الحكم وقيادة الرجال وتولي رئاسة الوزارة؛ وهي كذلك متعلمة في الغرب وفي جامعات أكسفورد وهارفارد، وهذه لديها صلات خاصة بالمدنية الحديثة إلى الدرجة التي ينزلق فيها غطاء رأس صاحبتنا بطريقة مفزعة لمن يجدون في شعر المرأة حرجا؛ وهي كذلك ليبرالية وتريد حكما ديمقراطيا في زمن أصبحت فيه الديمقراطية من مشروعات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة والدول الصناعية الثماني التي تحاول السيطرة على العالم وفرض قيم غربية عليه منها الانتخابات النظيفة.

وبصراحة أصبحت بنازير بوتو، مثل باكستان نفسها، ضحية الحركات الإسلامية المتطرفة التي لا تدخل بلدا إلا أفسدته وحولته إلى ساحة من العنف، وقسمته إلى جماعات وأقاليم متعارضة ومتحاربة، وحولته إلى حالة من المواجهة المزمنة مع العالم. ولم تكن باكستان هي أول معامل التجريب الراديكالي الديني في دنيا الإسلام ففي خلال تسعينات القرن الماضى اجتمعت في السودان تحت راية المؤتمرات الشعبية، والتنظيمات القومية، والرايات الثورية، كافة أنواع التمرد العالمية حيث سكن أسامة بن لادن وأيمن الظواهري جنبا إلى جنب مع إليش راميريز سانشيز الإرهابى الفنزويلي، الشهير بكارلوس. وكانت النتيجة هي ما أصاب السودان من حالات التفكك والانفصال والانفصام ما بين الشمال والجنوب، والدولة السودانية وإقليم دارفور، وما بين كل ذلك وشرق البلاد. وفي الحالتين السودانية والباكستانية رقد العسكر في أحضان التطرف حتى انقلبت عليهم أو انقلبوا عليها، وكان مَنْ دفع ثمن الانقلاب على هذا الجانب أو ذاك في النهاية البلاد والشعوب.

ولكن المعضلة في باكستان ربما تكون أكبر من كل المعضلات الأخرى، فهى دولة إسلامية كبرى بالعدد والقدرة على التأثير، وهي ذات عواطف إسلامية مشبوبة بحكم التجربة التاريخية للاستقلال، وهي مجاورة للعملاقين الصيني والهندي بل أنها جزء من التوازن الحرج فيما بينهما، وهي لصيقة مع أفغانستان التي باتت كتلة مشبوبة بالدخان والنار لا ينتظر لها خمود. وفوق كل ذلك، فهي دولة نووية ومع القنابل الذرية توجد صواريخ ذات باع وذراع. ولم تكن هناك صدفة أن اغتيال بنازير بوتو قد أدى إلى دعوة مجلس الأمن إلى الانعقاد، وهو الذي لا ينعقد إلا في الحالات التي تهدد الأمن والسلم الدوليين؛ فقد أصبحت باكستان حالة تهم العالم كله حيث تتقاطع عندها مصائر كثيرة. والمدهش في الموضوع هو أنه بينما يهتم العالم بذلك كله، فإن العالم العربي والإسلامي يقف مندهشا عاجزا من هول المفاجأة، ومتسائلا عما يستطيع الفعل معها حيث التساؤل تغطية على العجز ورفض لإمساك المصائر من قرونها. وفي الفم ماء كثير!!.