عاتِِكَةُ السِّندِ..!

TT

عجباً لشبه القارة الهندية، الخصيبة النسل والأساطير والحفيلة بالأديان والمذاهب واللغات، أن تلد نساءً عَواتِك تغلبنَ وساسنَّ بلدانها: إنديرا غاندي، ترأست حكومة الهند، واغتيلت (1984) على يد متشدد سيخي، وعاتِكَة السِّنْد بنازير بوتو اغتيلت (2007) على يد متشدد مسلم، ومرة أخرى نصرخ بالقول: «لا دين ولا مذهب للإرهاب»! ونالت رئاسة حكومات بنغلاديش: الشيخة حسينة، وخالدة ضياء. وقريباً، بل من متعلقات شبه القارة، حكمت بلاد الشاي، سريلانكا، سريمافو بندرانايكا ثم ابنتها. والآن رئيسة الهند براتيبها باتيل.

نساء حكمن تلك البلاد العجيبة الغريبة، التي أتى قديماً عليها أبو الريحان البيروني (ت 440هـ) في سفره: «تحقيق ما للهند مِنْ مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة». وقال النديم (ت نحو 438هـ) في السِّنْد لوحدها: «هؤلاء القوم مختلفو اللغات، مختلفو المذاهب، ولهم أقلام عدة. قال لي بعض مَنْ يجول بلادهم: إن لهم نحو مائتي قلم» (الفهرست). ويكفي الهند والسِّنْد، قبل انفصالهما، أن أتحفتا العالم بإنسان مثل المهاتما غاندي (اغتيل 1948)، والذي حرر بلاده بحفنة من الملح، وبممارسة الصبر، حتى غدت ثيابه الصوفية ومعزته الحلوب، قوة أخضعت لها الجيوش.

لكن، شاعرنا العراقي الشيخ محمد باقر الشبيبي (ت 1960) لم يقدر تلك الهالة من الكفاح، فأوهمته بساطة ثياب غاندي، وعريه من البندقية بالضعف والسذاجة، ذلك حين قال قصيدته الشهيرة للمستر كراين الأمريكي (1927)، والتي مطلعها الأشهر: «المستشار هو الذي شرب الطلاء..». ومما تحدى بها بريطانيا قوله: «ظنوا العراق الهند أو هو مثله.. خابت ظنونهم وخاب المقصد» (الهلالي، الشاعر الثائر).

وجدت لعائلة بنازير صلة بالعراق، فوالدة زوجها سلطنة خانم عراقية من أهل الكاظمية ببغداد، ومن دائر آل الجواهري. تزوجها حاكم علي، والد آصف، يوم كانوا يأتون بغداد في أثناء الحرب العالمية الثانية، لزيارة العتبات المقدسة، وهو نائب في البرلمان الباكستاني، ومن عائلة تجار معروفة. ولم يحسب لاختلاف المذهب حساب، إذ كان حاكم سُنَّياً والسيدة سلطنة شيعية، وهي الثنائية نفسها لدى والدي بنازير.

وبعد حين، لم ينس السيد آصف أولاد خالته، فقد ساعدهم بعد ما تعرضوا أسوة ببقية العراقيين المناهضين للنظام السابق بإصدار جوازات سفر باكستانية، لكن ليس في زمن حكومة زوجته، بل لديه جاه عريض بالبلاد. ولما سألت أحد أولاد خالته كيف رأيت بنازير: قال: «حديدية بمعنى الكلمة لا تنثني»! ثم أردف: «لو لم تطل برأسها من شباك العربة لتجاوزتها رصاصة الانتحاري»!

لبنازير بوتو، بين عَواتِك الهند والسِّنْد، منزلة إضافية، فبلادها الباكستان، التي تعني بلغتها الأوردية بلاد الأطهار، تعج بالقبائل الشرسة، وذات جبال ومغارات لم تفارقها طبائع ما قبل التاريخ، ولم تؤثر فيها سهولة الإمام أبي حنيفة (ت 150هـ)، حيث انتشار المذهب. ومن معاهدها الدينية خرجت مجاميع طالبان، ومنها خرجت نظرية «الحاكمية» حيث عاش فيها منظرها أبو الأعلى المودودي (ت 1979)، وفي أرضها زرعت الأصولية الانتحارية.

وبنازير الأنثى المتنورة بمشاعل الثقافة والرقي تتعامل مع هذا الخليط المتناكف، وتكسب الأنصار، ويحملونها إلى سدة الحكم. وتخرج من الوزارة وتعود إليها، وتستوعب محاولة اغتيالها حال عودتها عقب إعدام أبيها، تكبو وتنهض حتى غدا الموت منها قاب قوسين أو أدنى. كان ذلك الحدث، واغتيال أخويها: مرتضى ونواز شاه، كافيين لها أن تستكين وتحاذر، غير أنها لم تخلق إلا للزعامة، ومقابل هذه، ببلاد العقائد والأمزجة الحادة، مثل باكستان، ليس أقل من الحياة ثمناً.

لا أتحدث عن بنازير رئيسة الوزراء، وما شاب وزارتها من تجاوزات حُسبت عليها، مع ما لديها من آمال لتجديد بلاد الطاهرين، بقدر ما يجري الكلام عن ظاهرة تكاد تكون فريدة في أيام شرقنا الراهنة، مع أنها خٌلقت أنثى وما يعني هذا في أعرافنا الاجتماعية. ولا ندري، ماذا فعلت شقية سيف الدولة الحمداني (ت 356هـ) حتى يميزها أبو الطيب المتنبي (ت 354هـ)، عن سائر النساء وما يُنظر لهنَّ، بمديح يقول: «إن تكن خُلقت أنثى لقد خُلقت.. كريمةً غير أنثى العقل والنسب»!

أرى في قتل بنازير بوتو، عاتِكة السِّنْد، إطفاء شمعة لم تشح بنورها، كانت وسطاً جامعاً بين فخامة تقاليد الشرق وبين متغيرات العصر، بين جسارة السياسة والعقل المجمر، وإثبات ما لبنات جنسها من قدرات التصدي لمختلف مجالات الحياة وإدارة البلاد، وبين رقة ما طبعت عليه الأنثى. كانت مزهوة بأتباعها، وهم يتناثرون حولها قتلى في كمائن الموت التي لاحقتها منذ عودتها الأخيرة، واحدة تلو أخرى، حتى تجاوزت بهم حدود الحذر.

[email protected]