كيسنجر: نظرة أخرى .. أهلا بالصديق القديم

TT

إذن، هذه نهايات الستينات وبداية السبعينات. ولا بدّ من استعادة صورة العالم تلك الأيام. وهو عالم ملبّد كاد يذهب إلى حرب الفناء بسبب أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا أوائل العقد. وهو أيضاً عالم كان على بُعد عقدين أو أقل من الحرب العالمية الثانية. وهي مرحلة أخذت تنحسر فيها الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا، لتقوم في الأرض قوتان: أميركا وروسيا السوفياتية. وما بينهما قامت دول جديدة في كل مكان، ونشأت أفريقيا الوطنية وسط الحروب والديكتاتوريات، وحلت الحرب الفيتنامية محل الحرب الكورية، وتغير وجه العالم العربي وجوهره بقيام إسرائيل في قلبه، ثم توسعها بعد حرب 1967، واحتلال القدس وأجزاء من مصر وسورية.

في هذه الظروف جاء. أو جيء به. لم يأت فقط من هارفارد، بل أيضاً من خدمة الأثرياء وآل روكفلر. وقد أراد ريتشارد نيكسون أن يعطي لولايته صورة الثقافة التاريخية كما فعل خصمه جون كيندي، فاقترح عليه اصدقاؤه آل روكفلر اسم هنري كيسنجر العامل في بلاطهم، والباحث دأباً عن المال والجاه، والقابل طوعاً بتسخير ما تحصله في العلوم في سبيل تحصيل الاثنين. مناسبة العودة إلى هنري كيسنجر الآن، هي سيل الكتب التي ظهرت في الأشهر الأخيرة عنه وعن مرحلته وعن علاقته بريتشارد نيكسون ودوره في إدارته. أثناء وجوده في السلطة كنا نتعامل مع سياسة كيسنجر بردود فعل فورية وقناعات ومشاعر مسبقة. والآن إذ تعاد كتابة تلك المرحلة، هل يستدعي ذلك إعادة النظر في تلك القناعات؟ طبعاً. وإن أدى ذلك غالباً إلى تأكيد أو تعميق ما سبق. كان معروفاً في الماضي، مثلاً، أن نيكسون كان معادياً لإسرائيل فيما كان وزير خارجيته واحداً من كهانها التاريخيين. لكن لم يكن معروفاً أن نيكسون قرر الذهاب إلى حد مطالبة إسرائيل بالتخلي عن برنامجها النووي.

على أننا نرى في مرحلة أخرى كيسنجر يقف وراء توقيع أول معاهدة للحد من انتشار الأسلحة الاستراتيجية (1972) مع الاتحاد السوفياتي. ونسمع الزعيم الصيني شو إن لاي يرحب به قائلا: «أهلا بالصديق القديم»، في حين أن سلفه في إدارة ايزنهاور، جون فوستر دالاس، رفض قبل عقدين مصافحة السياسي الصيني الأول. ونجد كيسنجر يحرق كمبوديا، لكن من أجل الخروج من الفيتنام ثم الخروج النهائي من جنوب شرق آسيا. لكن ها هو يتغافل تماماً عن الارتكابات الوحشية التي يقوم بها حلفاء واشنطن في أميركا اللاتينية. وها هو يتفرج ببرودة على حرب لبنان، معتبرا أن «الساحة» اللبنانية هي افضل حلبة لحصر التفجير الشرق أوسطي وضرب المقاومة الفلسطينية.

وقد تولى بنفسه اصدار أول نعي لاستقرار لبنان، عندما رفض النزول في مطار بيروت لمقابلة رئيس الوزراء تقي الدين الصلح، مصرا على عقد الاجتماع في قاعدة رياق الجوية العسكرية. ألم تكن تلك إشارة أميركية واضحة إلى العالم بأن بيروت فقدت صفتها كعاصمة سياسية في العالم العربي؟ أم كانت تلك إشارة للاستعداد إلى الحرب الأهلية بتواطؤ أميركي ظاهر؟

إلى اللقاء