هل عندكم شك؟!

TT

الطرب، ومن منا لا يستخف به الطرب؟!، إلاّ ممن ضرب الله على قلبه. ولكن لا أضع نفسي في خانة (اليك)، ولكي لا يتهمني احد بالتحلل والمجون وصغارة العقل ـ مع أن هذا شبه وارد ـ إلاّ إنني استدرك واستعجل وأوضح أن الطرب الذي اعنيه هو: الهيام عشقاً بكل ما هو جميل، سواء كان ذلك الشيء هو كلمة أو صورة أو حتى زقزقة عصفور.

والآن هل نفذت بجلدي من تلك التهمة التي لا أتشرف بالحصول عليها ولا ادفعها عني كذلك؟!

الحمد لله على كل حال، سواء نفذت أو لم أنفذ.

والطرب يا سادتي أنواع.

فقد يطرب أحدنا بمتابعته لمسابقة ملكات جمال العالم مثلاً.

وقد يطرب آخر لأم كلثوم عندما تغني (رق الحبيب).

وقد يعجب آخر لذلك الشاعر النبطي المنقرض عندما يحدد الطرب بثلاثة أشياء فقط لا غير، ويقول:

«ترى الطرب يأهل الطرب خز المهار الصافنات ـ يقصد الخيل ـ

وترى الطرب يأهل الطرب كسب البكار المسمنات ـ يقصد مزايين الإبل ـ

وترى الطرب يأهل الطرب أخذ البنات المترفات ـ يقصد الزواج من كل بنت (حليوة ودلوعة) ـ هذه هي فقط حدود الطرب عند ذلك البدوي ـ ويا ليتني أوصل مواصيله.

غير أن تاريخ بعض خلفائنا المسلمين أعطانا صورة حضارية لما كانوا يتمتعون به من رقة للمشاعر، ولكنهم ورغم شغفهم بليالي الأنس، جعلوا هناك (بروتوكولاً) لكي لا تتأثر سمعتهم ولا تهتز صورتهم عند الآخرين، وهذا لعمري إنما هو دليل عبقريتهم التي قادتهم لتطبيق المثل القائل:

(لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم) ـ أي يستمع الخليفة (للماكسموم)، ولا يستهجنه في نفس الوقت البقية من الرعية ـ فقد كان معاوية ومروان بن عبد الملك والوليد وسليمان وهشام ومروان بن محمد، كانوا جميعهم يضعون ستارة بينهم وبين الندماء في ليالي الطرب. وبرر الجاحظ ذلك لكي لا يظهر شيء مما يفعله الخليفة إذا طرب، كأن يمشي أو يحرك كتفيه أو يرقص من دون أن يلاحظ أو يسمع منه احد ذلك. والذي كسر هذه القاعدة هو أبو العباس السفاح، صحيح انه كان لا يزال متشبثاً بالستارة ويضعها بينه وبين الندماء، غير انه أحياناً من زيادة ابتهاجه كان يصيح من وراء الستارة قائلاً للمغني: أحسنت والله، اعد هذا الصوت، وكان الجميع يسمعون (دبيكه وفحيحه وزفيره وتصفيقه) من دون أن يروه.

وعندما جاء (أبو جعفر المنصور) باعد بينه وبين الستارة عشرين ذراعاً.. وكان أحكم وأرزن من السفاح، وبدلاً من أن يقول للمغني بصوته مباشرة: أحسنت، كان يطلب من بعض الجواري الناعمات أن يقلن ذلك بالنيابة عنه للمغني.

والوحيد من الخلفاء الذي قلب الأمور رأساً على عقب هو (المهدي) الذي تداخل مع ندمائه وعندما نصحه احدهم ضرب بنصيحته عرض الحائط وقال له: إليك عني يا جاهل إنما اللذة في مشاهدة السرور وفي الدنو مما سرني، فاغرب عن وجهي.

وغلّب على الجميع كلهم (الأمين) الذي قالوا انه كان لا يبالي أين قعد ولا مع أي احد قعد. انه تاريخنا، انه تراثنا، إنهم رجالاتنا، هل عندكم شك يا من تتوقون إلى الخلافة؟!

[email protected]