كيسنجر: نظرة أخرى النابالم لا الغاز

TT

رفض هنري كيسنجر، عبر السنين، الإقرار بأي خطأ، أو الاعتذار عن شيء. ومضى يعمل على شيء واحد، هو ديمومته السياسية والمالية. وضع ثروة كبرى في تسويق خبرته، أما تسويق سمعته فظل قابلا للجدل. وحاول الإبقاء على علاقة ما، مع البيت الأبيض، ولو من بعيد. وتم الترويج حتى لمساعديه على أنهم قوم خارقون تخرجوا من مدرسته. وكان أبرز هؤلاء الجنرال الكسندر هيغ الذي جاء به رونالد ريغان وزيرا للخارجية ثم طرده بسبب تواطئه في الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وعندما بدأ جورج بوش الثاني الاستعداد لضرب العراق كان كيسنجر أول وأكبر المشجعين، يتقدم بول وولفويتز والمحافظين الجدد في الحملة على «أسلحة الدمار الشامل والإرهاب». وقد قال والتر ايزاكسون قبل سنين إن لدى كيسنجر «غريزة الوصفاء» أي الاستعداد الدائم لأن يقول ما يريد أهل السلطة سماعه، وإنه مستعد دائما لتقديم الغطاء للقرارات المتخذة مسبقاً.

انطلق في تبرير مساره من غطاء آخر، وهو أنه رائد «السياسة الواقعية». ويعني ذلك، بكلام آخر، التخلي عن الضوابط والمثاليات، وترك الدول تنزف وحيدة، كما حدث في العراق. وعندما قال له أحد الصحافيين إنه كان وراء السماح لأحمد سوركارنو بغزو تيمور الشرقية عام 1975، حيث سقط 200 ألف قتيل، كان الجواب ببساطة أن تطبيق السياسات الخارجية في مثل هذه الظروف يقتضي ذلك.

تختلف نظرة المؤلفين الجدد إلى كيسنجر حتى التناقض. روبرت دالك (عرضنا لكتابه سابقا حول نيكسون) يرى فيه رجلا حسودا مخادعا ووصوليا. ويرى فيه دالك أيضا مفاوضا ضعيفا يتفوق عليه أنداده الروس والصينيون والفيتناميون. وقد اكتشف مبعوثو هانوي إلى مفاوضات باريس سريعا نقاط ضعف الرجل وشغفه الطفولي بالإطراء، واستغلوا ذلك إلى درجة قال نيكسون معها «هذا الرجل ليس قادرا على التفاوض». وكان كيسنجر يرد على انتقادات رئيسه باتهامه بأنه معاد للسامية يبعد اليهود في فريق كيسنجر عن البيت الأبيض.

أما «جيرمي سوري» فيرى في كتابه «هنري كيسنجر والقرن الأمريكي» أنه «رجل دولة بطولي. رجل ذو مشاعر حاول القيام بعمل طيب في هذا العالم باتخاذه قرارات صعبة». و«رجل دخل السياسة لأسباب أخلاقية».

ولا يأتي سوري على ذكر قضية تيمور الشرقية أو تغافل كيسنجر عن مقتل نصف مليون بنغلاديشي عام 1971، أو دوره في تدمير كمبوديا الذي أدى إلى وصول «الخمير الحمر» إلى السلطة، أقبح ظاهرة دموية غبية في القرن الماضي.

ولكن التاريخ لا يرحم ولا يسامح. ثمة مئات الآلاف من الضحايا على ضمير كيسنجر. لم يقتلوا في أفران الغاز كما حدث في بلده ألمانيا وإنما قتلوا بالقصف وقنابل النابالم والقنابل الفوسفورية. وسواها.