البرطيل شيخ كبير

TT

لا يكاد يمر يوم واحد في هذه الأيام من دون أن نسمع عن فضيحة رشوة وفساد في مكان ما من العالم، في اليابان، في إسرائيل، في كولومبيا، في أمريكا، وهكذا، ناهيك من العالم العربي، حتى يلوح أنه قد جرت عولمته على أوسع نطاق. ومع ذلك فليس من جديد في هذه الظاهرة. ربما مارس الإنسان الفساد، حتى قبل ممارسة البغاء. كتب الأدب والتراث عندنا مليئة بمأثورات ذلك. من أمثالنا الشعبية «ارشوا تشفوا» وأيضا «البرطيل شيخ كبير» و«اللي ما ياخذوش الحاكم ياخذه الموت». وقال الشاعر في القضاة:

* قاض إذا انفصل الخصمان ردهما

- إلى جدال بحكم غير منفصل

* يبدي الزهادة في الدنيا وزخرفها

- جهرا ويقبل سرا بعرة الجمل

وقال آخر:

* يا أيها الناس قفوا واسمعوا

- صفات قاضينا التي تطرب

* يزني، ينتشي، يرتشـي

- ينم، يقضي بالهوى، يكذب

* لعل القراء يتذكرون (والظاهر أنهم يتذكرون ما أكتب بعد أن أكون قد نسيته أنا) ما سبق وقلته بصدد حركة التحرر الوطني. وصفتها بأنها حركة المرتشين والحرامية. فما حصل هو أن الإنجليز في عهد الاستعمار منعوا موظفينا من الرشوة والاختلاس فثار القوم عليهم. وبعد أن حصلنا على الجلاء وطردنا الاستعمار، عدنا إلى سابق عهدنا في قبض الرشوة وسرقة أموال الدولة.

ولكن الإنجليز كانوا ضالعين في الرشوة مثلنا، غير أنهم في القرن الثامن عشر اهتدوا إلى وسيلة جيدة في القضاء عليها، لا بالسجن والمحاسبة والمعاقبة، وإنما باللبرالية. حرروا المال والأعمال من قبضة الدولة. لم يعد المواطن في حاجة لإرشاء أي أحد ليقوم بما يريد أو يحصل على ما يشاء. هكذا اكتسب السلك المدني البريطاني سمعته العالمية بالنزاهة والنظافة، على الأقل حتى جئنا نحن العرب في السنوات الأخيرة، وأخذنا نعلمهم على الرشوة. لم أسمع طيلة حياتي عن موظف بريطاني يقبض رشوة من مراجع، حتى قرأت مؤخرا أن مواطنا لبنانيا استطاع أن يحصل على جوازات سفر بريطانية غير قانونية، برشوة أحد موظفي دائرة الباسبورت بالمال والجمال.

بلغ الفساد أوجه في التاريخ العثماني عندما جاء ولاة وقضاة غرباء عن البلد، لا يعنيهم من شأنه غير أن يجمعوا منهم جل ما يمكنهم قبل مغادرتهم وعودتهم من حيث أتوا. وأصبحت هذه الوظائف تباع وتشترى باللزمة وبالمزايدة، فقيل إن القاضي القلقشندي اشترى منصبه بثلاثة آلاف دينار، ثم استطاع القاضي ابن النقيب أن يأخذ مكانه برفع هذا الثمن إلى خمسة آلاف دينار. ما يعنينا من هذا الأمر في هذه الزاوية، أن الفساد ارتبط تاريخيا بفولكلور وتراث أدبي غني وحافل بالنكات والطرائف والحكايات. جمع منها ابن اياس طائفة كبيرة في كتابه «بدائع الزهور». فعل مثل ذلك ظرفاء التراث الأوروبي السياسي. وسأتناول شيئا منها في مقالاتي التالية، إن شاء الله. فطالما عجزنا عن التخلص من الفساد، فدعونا على الأقل نستأنس بطرائفه.