باكستان: هل ستتكرر تجربة أفغانستان لكن على نحو أكثر مأساوية ؟!

TT

إذا لم تقع معجزة وتنقذ التدهور المتسارع فإن اغتيال بنظير بوتو بالنسبة لباكستان سيكون بوابة عريضة وواسعة كالبوابة التي فتحها في أفغانستان ذلك الانقلاب الذي نفذه الجنرال محمد داود ضد ابن عمه الملك الأفغاني السابق ظاهر شاه في عام 1975 حيث تلاحقت الانقلابات وتلاحقت الأحداث والتطورات المرعبة التي أدت إلى الاحتلال المتعدد الجنسيات الحالي والتي رغم هذا الاحتلال تنذر بأسوأ الاحتمالات.

قبل ساعات فقط من مقتل بنظير بوتو، التي كانت تحلم كما كان يحلم والدها الذي قضى شنقاً حتى الموت في عام 1979 على يد الجنرال ضياء الحق الذي قضى هو بدوره بمتفجرة زرعت في طائرته قبل أن تحلق في السماء، بإنهاء نظام الثكنات والجنرالات وتحويل بلدها إلى دولة ديموقراطية على النمط الغربي، كان الجنرال برويز مشرف يستقبل حامد كرزاي، والمؤكد أن الرئيس الباكستاني والرئيس الأفغاني شكا كل واحدٍ منهما للآخر مرَّ الشكوى من التحديات التي يواجهها بسبب اشتداد ضغط التنظيمات المتطرفة على نظامه.

لا جدوى من الاستمرار بالجدل حول الجهة المسؤولة تحديداً عن اغتيال بنظير بوتو في مهرجان نظمه حزبها، الذي ورثت زعامته عن والدها ذو الفقار علي بوتو، وهل هي «القاعدة» أم بعض الاختراقات في الاستخبارات العسكرية الباكستانية، والمهم هو أن هذا الذي جرى قد جرى في بيئة مأزومة شديدة التطرف وهي بيئة تشبه تلك البيئة التي كانت تغرق فيها أفغانستان بعد سلسلة الانقلابات العسكرية التي ضربتها قبل وبعد غزو القوات السوفيتية لها في نهايات عام 1979.

أصبحت أفغانستان، في ذروة اشتداد الحرب الباردة والحرب الساخنة أيضاً بين الغرب والشرق، ميداناً للمواجهة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وبين الاتحاد السوفيتي وحلفائه من جهة أخرى، وفي ظل هذه المواجهة وقع انقلاب الجنرال محمد داود على ابن عمه ظاهر شاه الآنف الذكر واستطاع الأميركيون استدراج تدخل السوفيت عسكرياً ووضعهم على المنصة التي يريدونها للثأر منهم ردّاً على الهزيمة العسكرية الأميركية في فيتنام، وقد تسنى لهم ذلك، وكانت تلك الهزيمة المنكرة التي حلَّت بالقوات السوفيتية الغازية التي اضطرت للانسحاب كيفياً من الأراضي الأفغانية في مطلع تسعينات القرن الماضي.

لم يستشعر إلاَّ القليلون من المتابعين العرب في البدايات أن شرر ما يجري في أفغانستان سوف يصل إلى هشيم هذه المنطقة الذي لم يكن ينقصه ليشتعل ويتحول إلى حرائق هائلة إلا عود ثقاب، فالأكثرية كانت تعتقد أن ما يجري هناك في تلك البلاد البعيدة سيبقى هناك وأن النهاية السعيدة ستكون عندما يحقق «المجاهدون» الذين حصلوا، بضغط من واشنطن ومن الغرب كله، على دعم عربي لم تحصل عليه حتى الثورة الفلسطينية بهدف دحر القوات السوفيتية الغازية وتحرير بلادهم من «الإلحاد والشيوعية» !!.

فما الذي حصل.. وكيف تطورت الأمور..؟

إن الذي حصل هو أن أفغانستان، التي شكلت باكستان قاعدة خلفية لها من الناحية العسكرية اللوجستية ومن الناحية التعبوية العقائدية، تحولت باسم «الجهاد» إلى مدرسة للإرهاب والتطرف حيث أصبحت حاضنة لآلاف الشبان العرب الذين دفعتهم تنظيماتهم المتحالفة مع الغرب، وتحديداً مع واشنطن، لارتداء أكفانهم والالتحاق بالمجاهدين الذين كانوا يعتقدون أن الهدف الحقيقي هو تخليص دولة إسلامية، أعطت لهذه المنطقة جمال الدين الأفغاني، من الاحتلال الشيوعي البغيض الزاحف بسرعة نحو الدول العربية ونحو الخليج العربي والمنابع النفطية.

وهنا فإنه لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة، حتى قبل انقلاب الجنرال محمد داود على ابن عمه الملك ظاهر شاه، وحتى قبل انقلاب نور طرقي على محمد داود، وانقلاب حفيظ الله أمين على طرقي، وقبل انقلاب بابراك كارمال على حفيظ الله أمين، وقبل الغزو السوفيتي وقبل كل هذه تلك التطورات التي تتابعت وتلاحقت وأدت إلى كل ما أدت إليه، كانت قد دفعت أنظمة الانقلابات العسكرية في باكستان إلى التساهل مع «الجمعيات» الأصولية بل ومساعدتها لإنشاء المدارس الدينية «الجهادية» التي تحولت مع الوقت إلى مصانع للتطرف والإرهاب والتي تشير آخر المعلومات إلى أن عددها قد تجاوز الخمسين ألف مدرسة جميعها من نمط مدارس «الكتاتيب» التي عرفتها بعض البلدان العربية في أوقات سابقة .

كانت الولايات المتحدة تسعى لتفجير الاتحاد السوفيتي من الداخل وكانت تخطط لنقل عدوى هذه المدارس وهذا «الجهاد» إلى الجمهوريات الإسلامية السوفيتية المحاذية لأفغانستان من الشمال ومن بينها طاجيكستان وأذربيجان.. وهكذا فإن هذه المدارس الدينية تحولت إلى قاعدة خلفية لـ«المجاهدين» الأفغان والمعروف أن هذه المدارس،

بالتعاون والتنسيق مع الاستخبارات العسكرية الباكستانية هي التي «اخترعت وصنعت» حركة «طالبان» وهي التي شكلت ولا تزال تشكل حاضنة لـ«القاعدة» ولأسامة بن لادن وأيمن الظواهري.

والمعروف أن الأميركيين بعدما حققوا كل أغراضهم ومخططاتهم في أفغانستان وألحقوا تلك الهزيمة بالاتحاد السوفيتي غادروا تلك البلاد على جناح السرعة وتركوا «المجاهدين» ليقتلوا بعضهم وهذا هو سبب ظهور «القاعدة» وانتشارها كخلايا سرية في العديد من الدول العربية والعديد من الدول الغربية. فـ«الجهاد»، بعد هزيمة الجيش الأحمر وبعد رحيل الأميركيين وتركهم الأفغان يصفون حساباتهم الداخلية بين بعضهم بعضاً، ارتد إرهاباً مدمراً ضرب في الجزائر وفي المملكة العربية السعودية ومصر ودول عربية أخرى، وهو يضرب الآن بكل هذا العنف في العراق.

كان أسامة بن لادن ومن معه يعتقدون أن الأميركيين بعد إلحاق الهزيمة بالسوفيات في أفغانستان سوف يكافئونهم بما يستحقونه وكانوا يعتقدون أن مكافأتهم هذه ستكون مساعدتهم للوصول إلى الحكم في عدد من الدول العربية، لكن المفاجأة كانت أن الاتحاد السوفيتي انهار وانهار معه المعسكر الاشتراكي كله ولم تعد لواشنطن أي حاجة لا بـ«الجهاد» ولا المجاهدين فانتقل هؤلاء من خنادق الحلفاء إلى خنادق الأعداء وحولوا متفجراتهم وقنابلهم وفوهات بنادقهم إلى أصدقاء الأمس، فكان كل هذا العنف الذي استهدف هذه المنطقة كما استهدف أميركا والدول الغربية.

الآن وفي ضوء ما يجري في باكستان، بعد مقتل بنظير بوتو وقبل ذلك، يبدو أن هذه المنطقة العربية ستكتوي بنيران هذا البلد الإسلامي كما اكتوت ولا تزال تكتوي بنيران أفغانستان، ويقيناً أنه إذا بقيت الأمور تسير على هذا النحو وإذا بقي الجيش الباكستاني يقف موقف المتفرج والمحايد حيث لم يتدخل بصورة جدية إلاَّ في مواجهة محدودة هي مواجهة المسجد الأحمر في إسلام اباد، فإن باكستان ستتحول، كما قالت رئيسة الوزراء الباكستانية أكثر من مرة في غضون خمس سنوات إلى دولة متطرفة، وهذا يعني أن التجربة الأفغانية المريرة ستتكرر مرة أخرى ولكن على نحو أشد قسوة وأكثر مأساوية .

إن المؤكد أنه إذا فشلت القوى الديموقراطية والليبرالية في الإمساك بالأمور وإن هي لم تقض على ظاهرة المدارس الدينية التي وصفتها بنظير بوتو بأنها غدت معاقل للإرهاب والتطرف، وإن بقي الجيش يقف متفرجاً على هذا النحو، وإن بقيت الاستخبارات العسكرية مخترقة وفقاً لما يُقال، فإن باكستان المطلة على منطقة الخليج العربي والتي لها تواصل ديموغرافي كبير مع هذه المنطقة ستتحول إلى أكبر وأخطر قاعدة إرهابية في العالم .

هناك خلافات طاحنة بين القوى التي من المفترض أنها ديموقراطية وليبرالية، وهناك فقر مدقع يشكل البيئة التي أصبحت مستودعاً للأتباع والأعضاء الذين تلحقهم التنظيمات المتطرفة بـ«المدارس الدينية» ليتخرجوا منها قتلة باسم «الجهاد»، وهناك المخدرات والأموال الطائلة التي تدرها على هذه التنظيمات ومن يتعاملون معها ومنهم، كما يقال، بعض الأوساط في الأجهزة الرسمية، وهذا كله يجعل باكستان بمثابة قنبلة موقوتة إن هي انفجرت، فتجربة أفغانستان المريرة ستصبح مزحة صغيرة أمام التجربة الباكستانية المتوقعة.