كلنا بنازير بوتو!

TT

عندما سمعت بخبر اغتيال بنازير بوتو، حاولت ألا أصدقه في البداية، أو بالأحرى «فزعت فيه بآمالي الى الكذب»، كما قال المتنبي في قصيدته الشهيرة عن أخت سيف الدولة. ولكن وأمام تواتر الأنباء، كان لا بد من مواجهة الحقيقة المرة: لقد سقطت فعلا تلك المرأة ذات الاطلالة الرائعة والايشارب المزركش الجميل. لقد اغتيلت تلك المرأة ذات الابتسامة الجذابة والشخصية الآسرة. وكانت أول امرأة مسلمة تصل الى قيادة واحد من أهم بلدان العالم الاسلامي وأشدها خطورة في وقتنا الحاضر. لقد اغتيلت تلك المرأة المسلمة المنيرة والمستنيرة التي كانت تشق الدرب نحو تحرير العالم الاسلامي وإدخاله في الحداثة من دون ان تتخلى عن أجمل ما فيه: روحانيته الصافية وقيمه التنزيهية والأخلاقية العليا. وكثيرا ما كانت تدعو نفسها أمام الغربيين بأنها: بنت الشرق. وقد كانت.

هل ربح القتلة يا ترى؟ ظاهريا، نعم. على المدى القصير، نعم. ولكن جريمة اغتيالها سوف تجعل منها أسطورة، وسوف تلهب حماسة الجماهير لها وتزيد من تعلقها بأفكارها أكثر فأكثر. ذلك ان بنازير بوتو كانت لديها أفكار. وربما اطلعنا عليها بشكل أعمق وأكمل عندما سيصدر كتابها عن دار نشر نيويوركية تحت عنوان: المصالحة: الاسلام، والديمقراطية، والغرب. وهذا هو برنامج كل التحديثيين المسلمين والعرب. انه يتلخص بكلمة واحدة: كيف يمكن ان نصالح بين الاسلام والحداثة؟ أي: كيف يمكن ان نصالح بين القيم الروحانية والأخلاقية العليا للاسلام من جهة، والقيم العلمية والفلسفية والإنسانية للحضارة الغربية من جهة أخرى؟ هذا هو هدفنا جميعا، هذا هو حلمنا. ولذلك فإن في مقتلها شيئا من مقتلنا، شيء منا ذهب، سقط، مع سقوط تلك المرأة الرائعة مضرجة بدمائها.

لقد ربح القتلة مؤقتا يا سيدتي، واستطاعوا ان يخطفوا رسالة الاسلام. ولكن ذلك لن يدوم. سوف تنتصر قوى التقدم والنزعة الانسانية والقراءة المستنيرة لرسالة الاسلام على القوى الظلامية المتزمتة التي تفتك الآن بباكستان، وغيرها باكستان، فتكا ذريعاً. وبالتالي فالصراع المفتوح على مصراعيه هو بين قراءة قديمة وقراءة جديدة، قراءة صحيحة لجوهر الاسلام وقراءة خاطئة مشوهة تؤدي مباشرة الى الاجرام.

وبنازير بوتو هي ضحية موجة التطرف العارمة التي تكتسح العالم الاسلامي من أقصاه الى أقصاه. معظم قادة الفكر والسياسة والثقافة في العالم العربي، ومن ورائه العالم الاسلامي كله، مهددون الآن بنفس المصير الذي لقيته بنازير بوتو.

وسوف يسقط المئات والآلاف وعشرات الألوف منهم قبل ان تسطع شمس الحرية على عالمنا الاسلامي المعذب. ولكنها سوف تسطع يوما ما وتختفي خفافيش الظلام. ومن اجل هذا الهدف النبيل والعظيم، تهون كل التضحيات. لا يمكن أن نفهم استشهاد هذه المرأة الشابة الواعدة، لا يمكن ان نقبل سقوطها مضرجة بالدم، الا اذا وضعناه ضمن هذا السياق التاريخي الطويل العريض. لقد سقطت بالنيابة عنا جميعا، وأصبحت منارة للحرية، ولم تذهب دماؤها سدى.

على هذا النحو أفهم التضحيات الجسام التي تحصل في العالم العربي والإسلامي اليوم. لن نصل الى التحرير الداخلي الا بعد دفع الثمن الباهظ. ويخطئ من يظن ان التحرير الداخلي أسهل من التحرير الخارجي، أي من الاستعمار. على العكس انه أشد وأدهى، لأنك عندئذ تدخل في صراع مع نفسك، مع أهلك وبني دينك وجنسك.. عندئذ تدخل في صراع مع الذين اختطفوا الاسلام، فأصبح في يدهم رهينة كما قالت بنازير بوتو، وكما يقول كل المثقفين المستنيرين في مشرق العالم الاسلامي ومغربه. هذا الصراع ما عاد بالامكان تحاشيه أو تلافيه. لقد اصبح أكبر معطى جيوستراتيجي يشغل العالم كله حاليا. والسؤال هو: هل سنستطيع تخليص الاسلام من قبضة اولئك الذين اتخذوه رهينة؟ ومتى؟ ربما كانت خطيئة بنازير هي انها ككل القادة السياسيين كانت تعتقد بامكانية حرق المراحل وتغيير المعطيات وتحقيق الديمقراطية بضربة عصا سحرية. لا أقصد بذلك هنا النيل منها بعد ان سقطت شهيدة النور والحقيقة. وإنما أقصد بأن الشعوب الاسلامية، عربية كانت أم غير عربية، لا يمكن ان تصل الى الحرية والديمقراطية والتسامح الديني إلا بعد ان تخوض تجارب هائلة ومخاضات مرعبة.

إذ اقول هذا الكلام لا يعني اني اتجاهل مسؤولية الغرب عن تدهور الأمور في باكستان وسواها من البلدان الاسلامية والعربية. فالسياسة الحمقاء التي يتبناها والتي تقضي بمحاربة الارهاب الديني من دون محاربة أسبابه التي تنميه وتغذيه هي المسؤولة عن الفشل الذريع الذي وصلنا اليه حاليا. وهي المسؤولة ايضا عن مصرع بنازير بوتو أو استشهادها البطولي. فلنختتم بما قاله محمد البرادعي، ذلك الحكيم المصري والعربي الكبير لجريدة «الباري ماتش» الفرنسية اخيرا: لا أحد يولد كاميكاز. الانسان يصبح ارهابيا لأنه لم يعد لديه شيء لكي يخسره، أو لأنه يشعر بأنه أهين في كرامته الانسانية وعمق أعماقه. فمتى سيفهم الغرب ان الجوع كافر، وان بطر شعوبه المترفة يحصل على حساب الشعوب الأخرى ويستفزها؟