بي نظير بوتو.. امرأة أسطورة اغتالها الرجال

TT

إحساس بي نظير بوتو «ابنة الشرق» بالموت كان طاغيا منذ عودتها في أكتوبر الماضي. ولكنها ضربت مثلا لساسة العالم الثالث بأن التضحية لصالح المبادئ العليا واجب، وان القيادة السياسية الحقة لا بد لها من أن تضطر لخوض غمار المخاطر من اجل الشعوب.

لقد كانت بي نظير نمط قيادة جسورة في زمن يحتكر فيه الرجال صناعة السياسة. فلم تقعدها صفوية اوكسفورد من النزول إلى الشارع والاختلاط بالعامة والتمسك بزيها الوطني السابغ وخمارها المميز ومواجهة فرق الانتحاريين والمتشددين. وهو ما رآه الصادق المهدي رئيس وزراء السودان الأسبق مهددا لحياتها فكتب لها محذرا من مغبته؛ ولكن لا ينجي حذر من قدر.

ولا يعد فقدها نكسة فقط لطموحات الغرب بالعثور على قيادة سياسية معتدلة لترسيخ الوحدة بموازاة استشراء موجة العنف الطائفي التي استشرت في البلاد وبروز التشدد السياسي ووعيد «القاعدة» وهواجس القنبلة الإسلامية ومن يكفلها. وكانت أمريكا فيما يبدو تنتظر قدوم بي نظير بوتو لتعقد معها شراكة جديدة بعيد الانتخابات.

إن غياب بي نظير في وقت تشتد فيها الحاجة لدورها القيادي لبلد مثل باكستان لضربة كبرى لطموحات الديمقراطيين كافة؛ وبالأخص في العالم الثالث، لأن الاحتكام إلى الديمقراطية عن طريق الانتخابات يكرس ثقافة تحكيم الشعوب والتراضي على التداول والتعاقب السلمي للسلطة، وهي الثقافة التي قضت عليها منذ أمد دبابات الجيوش وخوذات العسكر في باكستان وافريقيا وآسيا وجيرت ثرواتهم للفساد والانتهاب وأطاحت استقرار شعوبهم.

لقد افلح مخطط خفي في استئصال أسرة بوتو من مسرح السياسة الباكستانية. واجه أبوها الإعدام شنقا في روالبندي عام 1979 والتي شهدت اغتيالها هي نفسها.

تحلت بي نظير كزعيمة للمعارضة بشجاعة نادرة بمواجهة فرق الانتحاريين العشرين على حد تقييم الاستخبارات الباكستانية التي كانت تنتظرها بالمرصاد والتي بدأت بالهجوم عليها منذ عودتها منذ أكثر من شهرين. وقد وضعت خيار الموت ضمن سلة الخيارات السياسية الصعبة التي حشر فيها الجنرال مشرف بلاده في بحثه عن المجد السلطوي وان كان ثمنه التنازل عن ألقابه العسكرية.

لقد تغيرت خارطة باكستان السياسية كثيرا أثناء وجود بي نظير في المنفى. أفرخت سياسات الجنرال برويز مشرف ـ الذي همش حزبي الشعب والرابطة الإسلامية ـ التمرد الاثني والتشدد الديني وأفرزت المليشيات المسيّسة لتملأ الفراغ الناجم؛ وليتم القضاء على باكستان التي أراد لها محمد علي جناح ان تكون ملاذا آمنا لمسلمي الهند من طغيان الغالبية العرقية فيها لدى انفصالها من الهند عام 1948.

والآن تطوق باكستان مخاطر الاضطرابات في مناطق البشتون الطالبانية في الشمال الغربي وتمرد قبائل البلوش والنزاع الطائفي المتمظهر في منطقة السند معقل عائلة بوتو. فضلا عن ضربات «الجهاديين» المتفاقمة وملاذ القاعدة فى مناطق القبائل.

يبدو ان مشرف الذي يلقى اللوم الأكبر في إيصال البلاد إلى عتبة الفوضى الضاربة، كان يأمل مواصلة برنامجه الرامي إلى استئصال الإسلاميين تحت شعار الارهاب بتقاسم السلطة مع بي نظير وحزب الشعب بتاريخه الكبير والعريق في الحفاظ على وحدة البلاد. ولكن اقتسام السلطة مع العسكريين اطروحة كذبتها التجارب على طول وعرض العالم الثالث، وحدت من جاذبيته تآكل نفوذ مشرف وشرهه للتمسك بالسلطة.

ان تغتال امرأة زعيمة للمعارضة ورأس الرمح في معركة انتخابية سلمية لاسترداد الحرية، ليس فقط نذير شؤم في معركة استعادة الديمقراطية بل درس للديمقراطيين في الشرق الأوسط المنتظرين أوبتها بدون تشمير السواعد، ولطمة لأولئك المنادين بالديمقراطية وليس لديهم سوى امتطاء عربة المحافظين الجدد.

وان يغتال الرجال امرأة افتقار للمروءة والشهامة. وان تكون تلك المرأة بي نظير بوتو فهو العار المغلظ بعينه. وقد يدخل اغتيالها باكستان في مأزق يطال جنرالاتها الحاليين ويجعل منها دولة متردية ومتشظية ويرهنها لمسلسل النقم الإثنية والسياسية بعد توعد حزب الشعب بالانتقام من قتلتها.

لقد كانت بي نظير مثل طائر العنقاء كلما نسجت عصابة الجنرالات أحابيلها للقضاء عليها طالتهم بصمودها النادر. ستبقى بي نظير أسطورة عنقاء للديمقراطية الحديثة في باكستان وغيرها والتي يقتضي الحصول عليها التجرد والتضحية والتماهي مع ثقافة الشعوب وضرب المثل الرائد بالقيادة وهو ما تحتاجه الشعوب أكثر من أي وقت مضى.

* كاتب سوداني