أشجان وأحزان وآمال لـ 2008

TT

مع بداية العام الجديد رأيت أن أقطف من كل بستان شوكة إذا لم أستطع قطف وردة، فأمورنا في منطقتنا العربية ليس فيها الكثير مما يرضي أو يوحي بالأمل، بل فيها ما يثير الأشجان والأحزان بدون أن يعني ذلك الاستسلام للتشاؤم المطلق أو الدائم، فهناك دائماً طريق يمكن أن نفتحها بإرادتنا وتصميمنا تقودنا إلى حيث قد تشرق الشمس منتصرين على غروبها من سماء ليس فيها قمر أو نجوم.

أولاً: لعل القراء لاحظوا أني عزوف في مقالاتي في جريدة «الشرق الأوسط» عن الكتابة عن الشؤون المصرية، على الرغم من اقتناعي بأن ما يجري بوطني مصر يهم كل الوطن العربي الكبير، وأن الإيمان بالعروبة يسمح لكل مواطن ـ بل يتطلب منه ـ أن يلم بكل ما يجري في كل أنحاء أمته وأن يعلق عليه، ولذلك فإني أسمح لنفسي أحياناً بأن أتجاوز في تعليقاتي الحدود وأتناول ليس فقط القضية الفلسطينية بل الأوضاع في دول شقيقة تمر بأوقات عصيبة، مثل لبنان، دون أن أتناول دولاً شقيقة أخرى. ومع ذلك ففي مقالي الأخير تحدثت عن أحوال مصرية، وسوف استطرد اليوم أيضاً ثم أغلق هذا الباب. أريد أن يدرك الجميع أن مصر تمر بمرحلة انتقالية هامة من منظومة سياسية اقتضتها ظروف إلى إرهاصات منظومة أخرى تتماشى مع التطورات في العالم، ترتكز على ديموقراطية اجتماعية لا تخضع فيها الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية للحرية الاقتصادية، ولا تضحي برفاهية المجموع في سبيل أرقام لا تعكس دائماً واقع الحال «لقد تحقق الكثير في مجال فتح الباب لنسيم الحرية لكي يهب رقيقاً على أرض مصر، وقد شهدنا حالة من حرية الرأي لا أذكر أننا عشنا مثلها من قبل، وهي حالة لها أخطارها التي نراها احياناً، سواء كانت أخطار المبالغة أو من حيث الممارسون لها أو الضائقون بها، وفي كلتا الحالتين فإن هناك من يقنعون أنفسهم أو هم مقتنعون مثلاً بأنهم دائماً على حق، وأن الآخرين دائماً على خطأ، فيتحول الحوار الذي هو أساسي لبناء ديموقراطية نتطلع جميعاً (فيما أتصور) إليها تقوم على الصوت الحر سواء في الإعلام أو في الصندوق ـ إلى اشتباك صوتي ومادي لا يكسب منه أي طرف من الأطراف. وقد ارتكبت أخطاء من جانب كل الأطراف أرجو أن يتجنبوها خلال العام الذي بدأ.

وقد كان تحرك الشارع المصري في الشهور الأخيرة بطريقة سلمية ومتحضرة، ورد فعل الأمن الذي اختط طريق التعامل السلمي بدلاً من العنف إشارة الى أن هناك رغبة حقيقية في أن يسير الجميع في طريق إصلاح طال التطلع إليه. وبقي أن يترجم هذا إلى سياسات توافقية، وإلى حوار جاد بين القوى السياسية التي تمثلها أحزاب يجب السماح لها ـ من داخلها ومن خارجها ـ بأن تكون فاعلة وفعالة، قادرة على أن تتنافس في البناء. وكذلك إلى سياسات اقتصادية تبتعد عن التطرف في نظرية أو أخرى وتجمع بين صفات تمتع بها مجتمعنا طويلا ولكنها توارت ـ وتقوم على العمل الجاد، والتضافر والتكافل دون مَنّ أو استغلال، ودون الانسياق وراء نظريات متطرفة ـ سواء كانت رأسمالية او اشتراكية ـ قد تكون سادت في بعض الأزمان لكنها الآن تطعمت ببعضها بعضا لتشكل منظومة فكرية تستهدف سعادة الإنسان وحقوقه في أن يعيش آمناً مطمئناً. واعترف برغم الصعوبات التي تمر بها، والعناء الذي نعانيه، والأخطاء التي ترتكب، بأني متفائل بأنه يمكن أن نحقق الآمال وأن نصل بأمان إلى نقطة التوازن التي تضمن تطوراً سلمياً ومستمراً نحو الأفضل.

ثانياً: أتيح لي أن أستمع إلى رئيس جمهورية فرنسا ساركوزي وهو يتحدث إلى نخبة من ممثلي المجتمع المصري بمختلف تخصصاته وتوجهاته، وهو يعمل على تبديد المخاوف والشكوك التي أحاطت ـ في منطقتنا ـ بتوليه الحكم باعتباره صديقاً بغير شروط للولايات المتحدة أو إسرائيل. وقد كان واضحاً في حديثه أنه بينما يؤيد حق إسرائيل في البقاء في أمان، فإنه يؤيد بقوة قيام دولة فلسطينية مستقلة وديموقراطية في الضفة والقطاع والقدس الشرقية في تواصل جغرافي. وأضاف أنه يتحدث نفس اللغة باستمرار وإنه سيكررها عندما يزور اسرائيل قريباً ويتحدث في الكنيست. أما عن الولايات المتحدة فأوضح أن كونه صديقاً لها لا يعني أن يتفق معها باستمرار. وقد قوبلت هذه المواقف بارتياح وإن كانت هناك تساؤلات حول مشروعه بشأن التعاون المتوسطي الذي أصبح اسمه «التعاون من أجل المتوسط» فرغم بعض شروحاته الموجهة ما زال الكثيرون يتساءلون عن الصلة بين هذا المشروع الجديد وبين مشروعات سابقة ما زالت حية وإن لم تحقق النتائج المرجوة لأنها اصطدمت باستمرار بالقضية السياسية المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي لأراض عربية، وهي عقبة ليس واضحاً كيف سيتجاوزها الاقتراح الجديد حتى إذا كان سيركز على مشروعات محددة يتصور الرئيس ساركوزي أنها يمكن أن تخلق تياراً من التفاهم. وتبدو لي هذه الفكرة أقرب ما تكون الى فكرة «الحل عن طريق التطبيع» وهي فكرة أثق بأنها لا يمكن أن تنجح، لأنه من المعروف أن ما تريده اسرائيل هو أن تضع «التطبيع» في جيبها ثمناً لبضاعة لا تنوي أن توردها. وما دمنا نتحدث عن إسرائيل، فإن دلالات سوء نواياها تترى، سواء في مجال العدوان والقتل والاجتياح أو في مجال طرق مجالات الوقيعة والدس بين الفلسطينيين، وبين الدول العربية الأخرى، بالادعاءات الكاذبة، أو بالمواقف المقننة التي تتخذها في مفاوضاتها مع أبو مازن حيث ترفض مجرد مناقشة الركائز الأساسية لتسوية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كانت عادلة وشاملة. وما زلت مقتنعاً بأن مواجهة هذه المواقف الاسرائيلية تقتضي توحيد الصف الفلسطيني عن طريق حوار بين فتح وحماس يتجاوز الأخطاء التي ارتكبها الطرفان مهما اختلف وزنها النسبي، وقد سمعنا مؤخراً عن عرض صدر من غزة لعله يستحق أن يمسك طرف عربي بخيطه عساه يقود الى شيء مما نرجوه ونتمناه.

ثالثاً: على الرغم من أن الجهود الفرنسية لتسوية الأزمة في لبنان قد توقفت بتراشق بين دمشق وبين باريس أعتقد انه كان يمكن تجنبه، فإن التوافق حول اسم رئيس الجمهورية القادم يبدو أنه ما زال صامداً، وأصبح من الضروري أن تبذل جهود لنقله إلى عالم الواقع. وقد سمعت من الفرنسيين شكوى من أن سوريا كلما حصلت على شيء طالبت بالمزيد، وأنه كان هناك اتفاق على الرئيس وعلى تشكيل حكومة وحدة وطنية وتعديل قانون الانتخاب، ولكن السوريين حاولوا أن يحصلوا للمعارضة على الثلث المعوق في الحكومة الائتلافية. وسمعنا من السوريين شكوى من أن الفرنسيين تراجعوا عن مواقف سابقة لهم. ومهما يكن من أمر فإن أساس التسوية كما يبدو موجودا، ويدور التساؤل مرة أخرى عما إذا لم يكن على العرب أن ينطلقوا من تلك النقطة لكي يعطوا الدفعة الأخيرة للتسوية المرجوة. وما زلت أشعر بأن هناك عائقاً معنوياً لدى الأشقاء السوريين نابعاً من مخاوف من أن يكون هناك هدف خفي لإسقاط النظام سواء عن طريق المحكمة الدولية أو بوسيلة أخرى. ولذلك فإني أعتقد أن مفتاحاً مهماً لفتح أبواب الحل هو إيجاد تنظيمات لدمشق مقابل ضمانات تعطيها. ولا أريد أن أطيل في هذا الجانب من الحديث، فإن لي فيه آراء أزعجت بعض الأشقاء اللبنانيين إذ فهموها خطأ، وأعرف أنها ليست على هوى الأشقاء السوريين. ولكني أتصور مخلصاً ـ على أعتاب هذا العام الجديد الذي نرجو أن يحمل من الأمل أكثر مما يجلب من الألم ـ أن الهدف الأسمى هو الوصول إلى تعايش سوري لبناني يضمن حياة حرة آمنة وديموقراطية للبنان الحبيب، وأعتقد أن ذلك كان منتهى ما يتمناه الشهيد العظيم رفيق الحريري الذي كان صديقاً عزيزاً لي، ومن لحقه من الشهداء الآخرين وكلهم أعزاء دفعوا حياتهم ثمناً لهذا اللبنان الذي يجب علينا أن نعمل بشتى الطرق لكي نعيده اليهم.

الأحاديث تطول والمساحة تضيق. وقد يكون لنا عود إلى بعضها، بل قطعاً سيكون، وحديث عن غيرها وهو كثير. أما الآن فإني أتمنى للجميع عاماً سعيداً.