عندما يتفلسف الحكام

TT

 فاجأ الرئيس الجديد نيكولا ساركوزي الفرنسيين في خطاب التهنئة بالعام الجديد باستخدامه مصطلحات فلسفية غريبة عن خطابه البرغماتي الواقعي، عندما تحث عن ضرورة القيام بسياسة حضارية جديدة، من اجل عصر نهضة جديد على غرار النهضة الأوروبية التي مهدت للحداثة.

والمثير في الأمر أن ساركوزي كاد أن يستنسخ مقاطع من كتاب الفيلسوف اليساري المشاكس ادغار مورين الذي صدر عام 1997 بعنوان «سياسة الحضارة». وبطبيعة الأمر يختلف سياق توظيف المصطلح لدى ساركوزي عن مقاربة الفيلسوف الذي أبدع المفهوم في إطار نقدي جذري للنموذج التنموي الغربي الذي قام بالنسبة له على فكرتين عظيمتين تحولتا إلى نقيضيهما وهما: النزعة الفردية التي أصبحت تفككا وانغلاقا وأنانية بعد أن كانت عنوان التحرر الذاتي، ومشروع الغزوالتقني للطبيعة الذي أفضى إلى الاستعباد الاجتماعي وتدمير البيئة وتهديد الأمن البشري بعد أن كان عنوان النموالاقتصادي والصناعي. يذكّر استخدام ساركوزي لمفهوم السياسة الحضارية بتوظيف الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش لمصطلح «الحرب الحضارية» غداة زلزال 11 سبتمبر 2001 ، الذي لجأ بعده إلى عدة مفاهيم أخرى مستنسخة من القاموس الفلسفي أشهرها مفهوم «الحرب الاستباقية» الذي ظهر في كتابات المحافظين الجدد، وهو في الأصل مستمد من أعمال الفيلسوف الألماني النازي كارل شميت. وغني عن البيان أن المعين الفلسفي الذي يصدر عنه فكر صانعي الرأي الحاليين في الولايات المتحدة هو فلسفة ليوشتراوس في نقده للتعددية الثقافية، وعودته لأخلاق الفضيلة الأرسطية وللقاموس الديني، وتشبثه بفكرة السيادة التقليدية في مقابل تقييدات القانون الدولي المعاصر. وقد جر التفلسف على الرئيس المحدود الثقافة إشكالات عويصة كانت موضوع سخرية الصحافة الأمريكية والدولية.

أما رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير فقد عرف بتبنيه لفكر الفيلسوف الانكليزي انتوني غيدنز الذي اشتهر بنظرية «الطريق الثالث» التي أرادها كما يقول في كتابه الذي صدر عام 1998 بالعنوان نفسه «مسلكا لتجديد الديمقراطية الاجتماعية». واستطاع بلير استمالة صديقيه كلينتون وشرودر لخطه الفلسفي. وفرح الفيلسوف بتلميذه الحاكم وكتب عن تجربته كتابا بعنوان «طريق بلير الثالث»، لكن الروح التجريبية الانكليزية حفظته من تجريد الفلاسفة. وبعد ما خرج محبطا من الحكم اختار التحول إلى الديانة الكاثوليكية التقليدية على نظريات غيدنز. لم يكن احد يتصور أن الفلسفة ستصبح موضة للحكام في هذا العصر الذي ماتت فيه الآيديولوجيا، وغابت عنه رصانة ونقدية الفكر المجرد. ففرنسا مثلا عاشت اثني عشر عاما في حكم شيراك الذي كانت ثقافته مرتكزة على الفن الياباني ومدارس الطبخ، بعد أن حكمها ميتران الذي كان قارئا نهما للفلاسفة وصديقا شخصيا لسارتر وفوكو، وقد اختار مستشارا نديما له الفيلسوف المرموق رجيس دوبريه الذي كتب كتابا طريفا يسرد فيه علاقة الفيلسوف المغرق في التأمل بالرئيس المثقف شديد الواقعية والانتهازية. يلوم دوبريه صديقه الحاكم على عدم الأخذ برأيه، لكنه يستدرك قائلا: متى أنصت الحكام للفلاسفة؟ صحيح أن المشروع الفلسفي الأول الذي هو كتاب الجمهورية لأفلاطون وضع خطة للحكم، لكن الساسة نعتوه بالمدينة الفاضلة الخيالية. وكما لم يؤثر أرسطو على تلميذه الكبير الاسكندر المقدوني لم يؤثر المعلم الثاني الفارابي في بلاط سيف الدولة، ولا ديكارت في الملكة كرستين. ولعل أول فيلسوف يصل للحكم ويحول الفلسفة الى آيديولوجيا للسلطة هولينين المؤسس الفعلي للماركسية التي تركها ماركس نفسه مجرد تصورات نظرية مجردة. وقد فشل المشروع الفلسفي الوحيد الذي اختبر في أرضية الواقع السياسي، وكانت حصيلته عقودا من الدمار والاستبداد والبؤس. وليس الخطأ في الفلسفة التي هي ممارسة إشكالية نقدية، تحرر الإنسان من الأحكام المسبقة والمعتقدات السائدة واليقينيات الزائفة، بدلا من ان تصنع للناس وعيهم وتصوغ لهم خياراتهم. في ساحتنا العربية ولع الحكام بالفلسفة، وأراد العديد منهم وضع نظريات عالمية تخرج البشرية من الظلمات الى النور، وتحل لهم مشاكل الكون والمجتمع، فكانت العاقبة خسرا ومأساة.

أشهر فيلسوف عربي معاصر هو عبد الرحمن بدوي أنهى حياته ناقما، لاعنا لحكام بلاده، وصب جام غضبه على الزعيم الكبير جمال عبد الناصر الذي نعته بالجهل وسخر من نظريته السياسية التي نعتها في مذكراته بأنها مقتبسة من جرائد الشيوعيين.